فصل: بَابُ الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ:

(وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إلَى قَرِيبٍ فَهُوَ عَلَى مَا دُونَ الشَّهْرِ، وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ فَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهْرِ) لِأَنَّ مَا دُونَهُ يُعَدُّ قَرِيبًا، وَالشَّهْرُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ يُعَدُّ بَعِيدًا، وَلِهَذَا يُقَالُ عِنْدَ بُعْدِ الْعَهْدِ مَا لَقِيتُك مُنْذُ شَهْرٍ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْيَمِينِ فِي تَقَاضِي الدَّرَاهِمِ):
التَّقَاضِي: الْمُطَالَبَةُ وَهُوَ سَبَبٌ لِلْقَضَاءِ وَهِيَ مَسَائِلُ الْبَابِ فَتُرْجِمَ الْبَابُ بِمَا هُوَ سَبَبُ مَسَائِلِهِ وَخَصَّ الدَّرَاهِمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ دَوْرًا فِي الْمُعَامَلَاتِ.
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إلَى قَرِيبٍ) أَوْ عَاجِلًا (فَهُوَ مَا دُونَ الشَّهْرِ) فَإِنْ أَخَّرَهُ إلَى الشَّهْرِ حَنِثَ (وَإِنْ قَالَ إلَى بَعِيدٍ) أَوْ آجِلًا (فَهُوَ عَلَى أَكْثَرِ) مِنْ شَهْرٍ وَعَلَى (الشَّهْرِ) أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ قَصَدَ الطِّبَاقَ بَيْنَ قولهِ مَا دُونَ الشَّهْرِ وَمَا فَوْقَهُ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْمَوْتِ إذَا مَاتَ لِشَهْرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ حَلَفَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ بِلَا غَايَةٍ مَحْدُودَةٍ إلَى الْمَوْتِ، فَإِنْ مَاتَ لِأَقَلَّ مِنْهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذَكَرُوا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لَيْسَ فِي يَمِينِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ تَقْدِيرٌ؛ لِأَنَّهُ إضَافِيٌّ، فَكُلُّ مُدَّةٍ قَرِيبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا بَعْدَهَا وَبَعِيدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا دُونَهَا، وَمُدَّةُ الدُّنْيَا كُلِّهَا قَرِيبَةٌ بِاعْتِبَارٍ وَبَعِيدَةٌ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِحِنْثِهِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ.
وَقُلْنَا: هُنَا وَجْهَانِ مِنْ الِاعْتِبَارِ اعْتِبَارُ الْإِضَافَةِ وَلَا ضَبْطَ فِيهَا كَمَا ذَكَرْت، وَاعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَعَلَيْهِ مَبْنَى الْأَيْمَانِ.
وَالْعُرْفُ يَعُدُّ الشَّهْرَ بَعِيدًا فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ شَهْرٍ عِنْدَ اسْتِبْعَادِ مُدَّةِ الْغَيْبَةِ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ النِّيَّةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ، فَأَمَّا إذَا نَوَى بِقولهِ إلَى قَرِيبٍ وَإِلَى بَعِيدٍ مُدَّةً مُعَيَّنَةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى حَتَّى لَوْ نَوَى بِقولهِ إلَى قَرِيبٍ أَوْ عَاجِلًا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ صَحَّتْ، وَكَذَا إلَى آخِرِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ، وَتَقَدَّمَتْ فُرُوعٌ فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ ضُحًى أَوْ عِنْدَ الْهِلَالِ وَنَحْوَهَا.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً أَوْ مُسْتَحَقَّةً لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ) لِأَنَّ الزِّيَافَةَ عَيْبٌ وَالْعَيْبُ لَا يُعْدِمُ الْجِنْسَ، وَلِهَذَا لَوْ تَجُوزُ بِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا، فَوُجِدَ شَرْطُ الْبِرِّ وَقَبْضُ الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ وَلَا يَرْتَفِعُ بِرَدِّهِ الْبِرَّ الْمُتَحَقِّقَ (وَإِنْ وَجَدَهَا رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّجَوُّزُ بِهِمَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ (وَإِنْ بَاعَهُ بِهَا عَبْدًا وَقَبَضَهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ طَرِيقُهُ الْمُقَاصَّةُ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْقَبْضَ لِيَتَقَرَّرَ بِهِ (وَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ) يَعْنِي الدَّيْنَ (لَمْ يَبَرَّ) لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَعَلَهُ، وَالْهِبَةُ إسْقَاطٌ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا دَيْنَهُ الْيَوْمَ فَقَضَاهُ فِيهِ ثُمَّ وَجَدَ فُلَانٌ بَعْضَهَا) أَيْ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ (زُيُوفًا) وَهِيَ الْمَغْشُوشَةُ غِشًّا قَلِيلًا بِحَيْثُ يَتَجَوَّزُ التُّجَّارُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ (أَوْ نَبَهْرَجَةً) وَغِشُّهَا أَكْثَرُ مِنْ الزُّيُوفِ يَرُدُّهُ مِنْ التُّجَّارِ الْمُسْتَقْصِي، وَيَقْبَلُهُ السَّهْلُ مِنْهُمْ (أَوْ مُسْتَحِقُّهُ لَمْ يَحْنَثْ) بِذَلِكَ سَوَاءٌ رَدَّ بَدَلَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ لَا؛ (لِأَنَّ الزَّيْفَ عَيْبٌ) وَكَذَا نَبَهْرَجَةٌ وَلَفْظُ الزِّيَافَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ غَيْرُ عَرَبِيٍّ بَلْ هُوَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ (وَالْعَيْبُ) فِي الْجِنْسِ (لَا يُعْدِمُ الْجِنْسَ) أَيْ جِنْسَ الدَّرَاهِمِ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ وَصْفِ الزِّيَافَةِ لَا يُعْدِمُ اسْمَ الدَّرَاهِمِ (لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا) فِي الصَّرْفِ: أَيْ لَوْ جُعِلَتْ بَدَلًا فِي الصَّرْفِ بِالْجِيَادِ أَوْ جُعِلَتْ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ صَحَّ مَعَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ عَنْ غَيْرِ قَبْضٍ مُفْسِدٌ لَهُمَا، فَعُرِفَ أَنَّهُمَا لَمْ يَنْتَفِ عَنْهُمَا جِنْسُ الدَّرَاهِمِ فَيَبَرُّ فِي الْيَمِينِ بِهِمَا سَوَاءٌ حَلَفَ عَلَى الْقَبْضِ أَوْ الدَّفْعِ (وَ) كَذَا قَبْضُ الدَّرَاهِمِ (الْمُسْتَحَقَّةِ صَحِيحٌ) وَلِذَا لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ قَبْضَهَا جَازَ، وَإِذَا بَرَّ فِي دَفْعِ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَلَوْ رَدَّ الزُّيُوفَ أَوْ النَّبَهْرَجَةَ أَوْ اُسْتُرِدَّتْ الْمُسْتَحَقَّةُ لَا يَرْتَفِعُ الْبِرُّ، وَإِنْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ فَإِنَّمَا يُنْتَقَضُ فِي حَقِّ حُكْمٍ يَقْبَلُ الِانْتِقَاضَ، وَمِثْلُهُ لَوْ دَفَعَ الْمُكَاتَبُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ وَعَتَقَ فَرَدَّهَا مَوْلَى الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ أَنَّهَا زَيْفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ أَوْ مُسْتَحَقَّةٌ لَا يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ (وَلَوْ كَانَتْ رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ) إذَا انْقَضَى الْيَوْمُ وَلَمْ يَرُدَّ بَدَلَهَا دَرَاهِمَ.
وَالسَّتُّوقَةُ الْمَغْشُوشَةُ غِشًّا زَائِدًا وَهُوَ تَعْرِيبُ سِيّ تُوقَةَ: أَيْ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ طَبَقَتَا الْوَجْهَيْنِ فِضَّةٌ وَمَا بَيْنَهُمَا نُحَاسٌ وَنَحْوُهُ؛ (لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى لَا يَتَجَوَّزَ بِهَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ) وَلَا يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ بِأَدَائِهَا، فَلَوْ رَدَّهَا الْمَوْلَى ظَهَرَ عَدَمُ عِتْقِ الْعَبْدِ.
قولهُ: (وَإِنْ بَاعَهُ) أَيْ إنْ بَاعَ الْحَالِفُ الْمَدْيُونُ رَبَّ الدَّيْنِ الَّذِي حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ الْيَوْمَ دَيْنَهُ فِي الْيَوْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَى قَضَائِهِ فِيهِ (عَبْدًا وَقَبَضَهُ) رَبُّ الدَّيْنِ (بَرَّ) الْمَدْيُونُ (فِي يَمِينِهِ)؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ لَوْ وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ.
وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ فِي ذِمَّةِ الْقَابِضِ وَهُوَ الدَّائِنُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ لِيَتَمَلَّكَهُ وَلِلدَّائِنِ مِثْلُهُ عَلَى الْمُقْبَضِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، فَكَذَا هُنَا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُقَاصَصُ بِهِ فَيَبَرُّ فِي يَمِينِهِ بِإِعْطَاءِ الْعَبْدِ قِصَاصًا وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ ثَمَنُ الْعَبْدِ وَلَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهَا فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، ثُمَّ الْبِرُّ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ قَبَضَ الدَّائِنُ الْعَبْدَ أَوْ لَا، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمَدْيُونِ الْحَالِفِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَعَادَ الدَّيْنُ، وَلَا يُنْتَقَضُ الْبِرُّ فِي الْيَمِينِ وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ تَأْكِيدًا لِلْبَيْعِ لِيَتَقَرَّرَ الدَّيْنُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَإِنْ وَجَبَ بِالْبَيْعِ لَكِنَّهُ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ لِجَوَازِ أَنْ يَهْلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا وَقَبَضَهُ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ تَفِي بِالدَّيْنِ بَرَّ وَإِلَّا حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، هَذَا إذَا حَلَفَ الْمَدْيُونُ، وَكَذَا إذَا حَلَفَ رَبُّ الدَّيْنِ فَقَالَ: إنْ لَمْ أَقْبِضْ مَالِي عَلَيْك الْيَوْمَ أَوْ إنْ لَمْ أَسْتَوْفِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ (فَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ لَمْ يَبَرَّ) يَعْنِي إذَا وَهَبَ رَبُّ الدَّيْنِ الدَّرَاهِمَ الدَّيْنَ فِي الْيَوْمِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ فَقَبِلَ لَمْ يَبَرَّ الْمَدْيُونُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُوجَدْ (لِعَدَمِ الْمُقَاصَّةِ) وَلِأَنَّ فِعْلَ الْمَدْيُونِ وَالْهِبَةِ فِعْلُ الدَّائِنِ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُ هَذَا فِعْلَ الْآخَرِ.
قَالَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: وَإِذَا لَمْ يَبَرَّ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا عِنْدَهُمَا لِفَوَاتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ: يَعْنِي تَعَذُّرَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ.
وَتَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ أَنَّ بَقَاءَ التَّصَوُّرِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَهَذِهِ كَذَلِكَ إذْ الْكَلَامُ هُنَا فِي يَمِينٍ مُؤَقَّتَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَمْ يَذْكُرْ الْيَوْمَ.
وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ارْتِفَاعَ النَّقِيضَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ نَقِيضُ الْحِنْثِ فَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ النَّقِيضَيْنِ اللَّذَيْنِ يَجِبُ صِدْقُ أَحَدِهِمَا دَائِمًا هُمَا فِي الْأُمُورِ الْحَقِيقِيَّةِ كَوُجُودِ زَيْدٍ وَعَدَمِهِ، أَمَّا فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا تَعَلَّقَ قِيَامُ النَّقِيضَيْنِ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُمَا مَا دَامَ السَّبَبُ قَائِمًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ قِيَامَ الْيَمِينِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ مِنْ الْحِنْثِ أَوْ الْبِرِّ شَرْعًا، فَإِنْ فُرِضَ انْتِفَاؤُهُ انْتَفَى الْحِنْثُ وَالْبِرُّ كَمَا هُوَ قَبْلَ الْيَمِينِ حَيْثُ لَا بِرَّ وَلَا حِنْثَ، فَإِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُهُ كَانَ الْحَالُ كَمَا هُوَ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَجَمِيعُ مَا أُورِدَ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ مِثْلُ قول صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ لَمْ يَحْنَثْ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ، وَقول الْكَرْخِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَحْنَثْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ لَهُ قَالُوا بَرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْبِرُّ وَهُوَ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْهِبَةِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ الْحَالِفِ عَلَى يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَمَا أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ، أَمَّا الْمُطْلَقَةُ بِأَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ فَأَبْرَأَهُ أَوْ وَهَبَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ التَّصَوُّرَ لَا يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ بَلْ فِي الِابْتِدَاءِ، وَحِينَ حَلَفَ كَانَ الدَّيْنُ قَائِمًا فَكَانَ تَصَوُّرُ الْبِرِّ ثَابِتًا فَانْعَقَدَتْ ثُمَّ حَنِثَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْيَأْسِ مِنْ الْبِرِّ بِالْهِبَةِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَ جَمِيعَهُ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَبْضُ الْكُلِّ وَلَكِنَّهُ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ إلَى دَيْنٍ مُعَرَّفٍ مُضَافٍ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ إلَى كُلِّهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِهِ (فَإِنْ قَبَضَ دَيْنَهُ فِي وَزَنَيْنَ لَمْ يَتَشَاغَلْ بَيْنَهُمَا إلَّا بِعَمَلِ الْوَزْنِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَفْرِيقٍ) لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ قَبْضُ الْكُلِّ دُفْعَةً وَاحِدَةً عَادَةً فَيَصِيرُ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَمْ يَحْنَثْ) بِمُجَرَّدِ قَبْضِ ذَلِكَ الْبَعْضِ بَلْ يَتَوَقَّفُ حِنْثُهُ عَلَى قَبْضِ بَاقِيهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ حَنِثَ (لِأَنَّ الشَّرْطَ) أَيْ شَرْطَ الْحِنْثِ (قَبْضُ الْكُلِّ بِوَصْفِ التَّفَرُّقِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْقَبْضَ) الْمُتَفَرِّقَ (إلَى كُلِّ الدَّيْنِ) حَيْثُ قَالَ: لَا أَقْبِضُ دَيْنِي وَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّهِ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِتَمَامِهِ مُتَفَرِّقًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّفَرُّقُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِتَعَدُّدِ الْوَزْنِ لَا يَحْنَثُ إذَا كَانَ لَمْ يَتَشَاغَلْ بَيْنَ الْوَزْنَتَيْنِ إلَّا بِعَمَلِ الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ فَكَانَ الْوَزْنَتَانِ كَوَزْنَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَشَاغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ بِهِ يَخْتَلِفُ مَجْلِسُ الْقَبْضِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ قَبْضُهُ بِوَزْنَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَثْرَتِهِ فَجُعِلَ التَّفْرِيقُ الْكَائِنُ بِهَذَا السَّبَبِ مُسْتَثْنًى.
وَالْمَسْأَلَةُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ مُؤَقَّتَةٌ هَكَذَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَقَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ أَخَذْتُهَا مِنْك الْيَوْمَ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ مِنْهَا خَمْسَةً وَلَمْ يَأْخُذْ مَا بَقِيَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ أَخْذُ كُلِّ الْمِائَةِ عَلَى التَّفْرِيقِ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ أَخَذْتُ مِنْهَا الْيَوْمَ مِنْك دِرْهَمَيْنِ دُونَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ خَمْسَةً وَلَمْ يَأْخُذْ مَا بَقِيَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ أَخْذَ بَعْضِ الْمِائَةِ مُتَفَرِّقًا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ وُجِدَ.

متن الهداية:
(وَمَنْ قَالَ: إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا نَفْيُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا (وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَيْرَ مِائَةٍ أَوْ سِوَى مِائَةٍ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَدَاةُ الِاسْتِثْنَاءِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ قَالَ: إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَلَمْ يَمْلِكْ إلَّا خَمْسِينَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا نَفْيُ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ) فَيَصْدُقُ عَلَى الْخَمْسِينَ، إذْ يَصْدُقُ أَنَّ الْخَمْسِينَ لَيْسَ زَائِدًا عَلَى الْمِائَةِ.
وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى اللَّفْظِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى جَعْلِ الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتًا عَلَى حُكْمِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى اللَّفْظِ لَيْسَ لِي مَالٌ إلَّا مِائَةٌ فَالْمِائَةُ مُخْرَجَةٌ مِنْ نَفْيِ الْمَالِ، فَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الْمُسْتَثْنَى مَسْكُوتٌ فَتَكُونُ الْمِائَةُ غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ بَلْ وَلَا مُتَعَرَّضًا لَهَا بِإِثْبَاتٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَهَذَا قول طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ.
وَأَمَّا عَلَى جَعْلِهِ مُثْبَتًا بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ كَمَا هُوَ قول طَائِفَةٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَهُوَ مُخْتَارُنَا، وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَيَحْنَثُ لَفْظًا؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَنَّ لَهُ مِائَةً.
وَأَمَّا قول الْمُصَنِّفِ (وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْمِائَةِ اسْتِثْنَاؤُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا) فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَجْهٌ مُقَابِلٌ لِقولهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عُرْفًا إلَخْ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولًا لَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إخْرَاجَهَا لَيْسَ إلَّا مِنْ النَّفْيِ، وَحَاصِلُهُ إخْرَاجُ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمِائَةِ مِنْ عَدَمِ الْمِلْكِ، فَلَوْ صَحَّ كَانَ الْحَلِفُ عَلَى نَفْيِ خَمْسِينَ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ يَحْنَثُ فَلَيْسَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ إلَّا وَجْهَ الْعُرْفِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَعْطَى زَيْدًا مِائَةً مَثَلًا فَقَالَ زَيْدٌ: لَمْ يُعْطِنِي إلَّا خَمْسِينَ فَقَالَ: إنْ كُنْت أَعْطَيْته إلَّا مِائَةً فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْأَقَلِّ، وَكَذَا إذَا اُخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ فَقَالَ: لِي عَلَيْهِ مِائَةٌ وَقَالَ الْآخَرُ: خَمْسُونَ فَقَالَ: إنْ كَانَ لِي عَلَيْهِ إلَّا مِائَةٌ فَهَذَا لِنَفْيِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِيَمِينِهِ الرَّدَّ عَلَى الْمُنْكَرِ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ كُنْتُ أَمْلِكُ إلَّا خَمْسِينَ فَمَلَكَ عَشَرَةً لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى، وَلَوْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى الْخَمْسِينَ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَالِ الزَّكَاةِ حَنِثَ وَإِلَّا لَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ يَنْصَرِفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ أَوْ حَلَفَ مَا لِي مَالٌ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِمَالِ الزَّكَاةِ.
وَفِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ: لَوْ قَالَ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَهُ عُرُوضٌ وَضِيَاعٌ وَدُورٌ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ لَمْ يَحْنَثْ، وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ:

(وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا) لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَعَمَّ الِامْتِنَاعُ ضَرُورَةَ عُمُومِ النَّفْيِ (وَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا فَفَعَلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بَرَّ فِي يَمِينِهِ) لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ فِعْلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَيْنٍ، إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ الْإِثْبَاتِ فَيَبَرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِمَوْتِهِ أَوْ بِفَوْتِ مَحَلِّ الْفِعْلِ.
الشَّرْحُ:
مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ: أَيْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ لِأَمْرٍ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ أَوْ تَأَخَّرَ وَضْعُ التَّرْجَمَةِ عَنْ وَضْعِ الْمَسَائِلِ فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ تَقَدُّمُ التَّرْجَمَةِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا لِمَا شَذَّ عَنْ الْأَبْوَابِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ وَنَحْوَهَا قولهُ: (وَإِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ فَعَمَّ الِامْتِنَاعُ) فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبِلَةِ (ضَرُورَةَ عُمُومِ النَّفْيِ) لِلْفِعْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْمَصْدَرِ النَّكِرَةِ فَلَوْ وُجِدَ مَرَّةً لَمْ يَكُنْ النَّفْيُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ثَابِتًا (وَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا بَرَّ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ فِعْلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَيْنٍ، إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ الْإِثْبَاتِ فَيَبَرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهُ) سَوَاءٌ كَانَ مُكْرَهًا فِيهِ أَوْ نَاسِيًا أَصِيلًا أَوْ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ لَا يُحْكَمْ بِوُقُوعِ الْحِنْثِ حَتَّى يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الْفِعْلِ (وَذَلِكَ بِمَوْتِ الْحَالِفِ) قَبْلَ الْفِعْلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْكَفَّارَةِ (أَوْ بِفَوْتِ مَحِلِّ الْفِعْلِ) كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَيْدًا أَوْ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الرَّغِيفَ فَمَاتَ زَيْدٌ أَوْ أَكَلَ الرَّغِيفَ قَبْلَ أَكْلِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ، هَذَا إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً كَمَا أَرَيْنَاك، فَلَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً مِثْلُ لَآكُلَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ سَقَطَتْ بِفَوَاتِ مَحِلِّ الْفِعْلِ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا سَلَفَ فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ مُضِيِّهِ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ، وَلَوْ جُنَّ الْحَالِفُ فِي يَوْمِهِ حَنِثَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِأَحْمَدَ.

متن الهداية:
(وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ دَخَلَ الْبَلَدَ فَهَذَا عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ شَرِّهِ أَوْ شَرِّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ سَلْطَنَتِهِ، وَالزَّوَالُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْعَزْلِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لِيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ دَاعِرٍ دَخَلَ الْمَدِينَةَ) وَهُوَ بِالدَّالِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ كُلُّ مُفْسِدٍ وَجَمْعُهُ دُعَّارٌ مِنْ الدَّعْرِ وَهُوَ الْفَسَادُ، وَمِنْهُ دَعِرَ الْعَوْدَ يَدْعَرُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ إذَا فَسَدَ (فَهُوَ عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً) فَلَوْ عُزِلَ لَا يَلْزَمُهُ إخْبَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، هُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهَذَا التَّخْصِيصُ فِي الزَّمَانِ يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِاسْتِحْلَافِ زَجْرُهُ بِمَا يَدْفَعُ شَرَّهُ أَوْ شَرَّ غَيْرِهِ بِزَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا زُجِرَ دَاعِرٌ انْزَجَرَ دَاعِرٌ آخَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي حَالِ وِلَايَتِهِ؛ لِأَنَّهَا حَالُ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ (فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ بَعْدَ زَوَالِ سَلْطَنَتِهِ وَالزَّوَالُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا بِالْعَزْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) وَإِذَا سَقَطَتْ الْيَمِينُ لَا تَعُودُ وَلَوْ عَادَ إلَى الْوِلَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ بَعْدَ الْعَزْلِ أَيْضًا، وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُعَادَ فَيَزْجُرَهُ لِتَقَدُّمِ مَعْرِفَتِهِ بِحَالِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ.
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ أَيْضًا: ثُمَّ إنَّ الْحَالِفَ لَوْ عَلِمَ بِالدَّاعِرِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا إذَا مَاتَ هُوَ أَوْ الْمُسْتَحْلَفُ أَوْ عُزِلَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ إلَّا بِالْيَأْسِ إلَّا إذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً فَيَحْنَثُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مَعَ الْإِمْكَانِ.اهـ.
وَلَوْ حُكِمَ بِانْعِقَادِ هَذِهِ لِلْفَوْرِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ لِزَجْرِهِ وَدَفْعِ شَرِّهِ، فَالدَّاعِي يُوجِبُ التَّقْيِيدَ بِالْفَوْرِ: أَيْ فَوْرِ عِلْمِهِ بِهِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَّفَ رَبُّ الدَّيْنِ غَرِيمَهُ أَوْ الْكَفِيلَ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ الْبَلَدِ إلَّا بِإِذْنِهِ يَتَقَيَّدُ بِحَالِ قِيَامِ الدَّيْنِ وَالْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْمَنْعِ، وَكَذَا لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ تَقَيُّدًا بِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَإِذَا زَالَ الدَّيْنُ وَالزَّوْجِيَّةُ سَقَطَتْ ثُمَّ لَا تَعُودُ الْيَمِينُ بِعَوْدِهِمَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ امْرَأَتُهُ مِنْ الدَّارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ، إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِذْنَ فَلَا مُوجِبَ لِتَقْيِيدِهِ بِزَمَانِ الْوِلَايَةِ فِي الْإِذْنِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي حَلِفِهِ عَلَى الْعَبْدِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا بِغَيْرِ إذْنِك طَالِقٌ فَطَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِهَا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَقَيَّدْ يَمِينُهُ بِبَقَاءِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَقَيَّدُ بِهِ لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَسْتَفِيدُ وِلَايَةَ الْإِذْنِ وَالْمَنْعِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ) خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِثْلُهُ.
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلِهَذَا يُقَالُ وُهِبَ وَلَمْ يَقْبَلْ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِهِ، أَمَّا الْبَيْعُ فَمُعَاوَضَةٌ فَاقْتَضَى الْفِعْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَيَهَبَنَّ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ) الْأَصْلُ أَنَّ اسْمَ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّهْنِ وَالْخُلْعِ بِإِزَاءِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا، وَفِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ بِإِزَاءِ الْإِيجَابِ فَقَطْ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْعَطِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعُمْرِيِّ وَالنِّحْلِيِّ وَالْإِقْرَارِ وَالْهَدِيَّةِ.
وَقَالَ زَفَرُ: هِيَ كَالْبَيْعِ.
وَفِي الْبَيْعِ وَمَا مَعَهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لِلْمَجْمُوعِ.
فَلِذَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُك أَمْسِ هَذَا الثَّوْبَ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ: بَلْ قَبِلْت أَوْ آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ بَلْ قَبِلْت الْقول قول الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْبَيْعِ تَضَمَّنَ إقْرَارَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَقولهُ: لَمْ تَقْبَلْ رُجُوعٌ عَنْهُ، وَكَذَا عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَأَوْجَبَ فَقَطْ، وَعَلَى الْحِنْثِ إذَا حَلَفَ لَيَبِيعَنَّ الْيَوْمَ فَأَوْجَبَ فِيهِ فَقَطْ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، فَعِنْدَنَا يَبَرُّ الْإِيجَابُ، وَعِنْدَهُ يَحْنَثُ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِزُفَرَ بِاعْتِبَارِهِ بِالْبَيْعِ (لِأَنَّهُ) أَيْ عَقْدَ الْهِبَةِ (تَمْلِيكُ مِثْلِهِ) حَتَّى يَتَوَقَّفَ تَمَامُ سَبَبِيَّتِهِ عَلَى الْقَبُولِ فَلَا يَكُونُ هُوَ: أَيْ عَقْدُ الْهِبَةِ بِلَا قَبُولٍ كَالْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بَلْ بِمُجَرَّدِ إيجَابِ الْهِبَةِ وَالْقَبُولِ مِنْ الْآخَرِ بَرَّ لِتَمَامِ السَّبَبِ، وَإِنَّمَا الْقَبْضُ شَرْطُ حُكْمِهِ وَالسَّبَبُ يَتِمُّ دُونَهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: يُشْتَرَطُ مَعَهُ الْقَبْضُ فَلَا يَبَرُّ حَتَّى يَقْبِضَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ بِلَا حُكْمٍ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ) أَيْ الْهِبَةُ اسْمٌ لِلتَّبَرُّعِ، فَإِذَا تَبَرَّعَ وُجِدَ الْمُسَمَّى فَيَحْنَثُ، وَلَا يُرَادُ تَمَامُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ إلَّا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، إلَّا أَنَّ بِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ بِلَا اخْتِيَارٍ وَنَحْوِهِ مِنْ فَسْخِ نِكَاحِ الزَّوْجَةِ الْمَرْقُوقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَوِّلَ وَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ لِتَمَامِ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي احْتِيَاجِهِ إلَى الْقَبُولِ فِي تَمَامِ الْعَقْدِ وَوُقُوعِهِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْآخَرِ كَالْبَيْعِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ بِهِ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ بِلَا بَدَلٍ حَتَّى يَظْهَرَ رِضَاهُ بِذَلِكَ بِلَفْظِهِ الْمُفِيدِ لَهُ فَهُوَ كَالْبَيْعِ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِي تَعْيِينِ مُسَمَّيَاتٍ شَرْعِيَّةٍ لِأَلْفَاظٍ هِيَ لَفْظُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَأَخَوَاتِهِمَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْلِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ بَاعَ فُلَانٌ كَذَا أَوْ بِعْت كَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ وُقُوعُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حُكِمَ بِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ لِلْمَجْمُوعِ، ثُمَّ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي اسْمِ الْهِبَةِ فَقَالَ زُفَرُ هُوَ كَذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِالنَّقْلِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قول ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» فَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الْإِهْدَاءِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَقَطْ لِفَرْضِ أَنَّهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ قول ابْنِ عَبَّاسٍ أَهْدَى إمَّا حِكَايَةُ قول الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَهْدَيْتُ لَك هَذَا أَوْ حِكَايَةُ فِعْلٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُفِيدُ أَنَّ اسْمَ الْهِدَايَةِ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْآخَرِ أَوْ لَا.
وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقولنَا: وَهَبْت لِفُلَانٍ فَلَمْ يَقْبَلْ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظَ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيجَابِ بِقَرِينَةٍ كَقولهِ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ فَقَطْ كَمَا يُقَالُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَكَوْنُهُ ظَهَرَ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي مُجَرَّدِ الْإِيجَابِ بِقَرِينَةٍ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ هُوَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْته هَذَا الثَّوْبَ بِأَلْفٍ فَلَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا وَيَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِاسْمِ الْكُلِّ فِي الْجُزْءِ، فَلَوْ دَلَّ صِحَّةُ قول الْقَائِلِ وَهَبْت فَلَمْ يَقْبَلْ عَلَى أَنَّ وَضْعَ لَفْظِ الْهِبَةِ لِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ قولهِ: بِعْته فَلَمْ يَقْبَلْ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْإِثْبَاتِ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقول الصِّدِّيقِ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُنْت نَحَلْتُك عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِ الْعَالِيَةِ وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي حُزْتِيهِ.
فَسَمَّاهُ نِحْلًى قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنَّمَا يَنْتَهِضُ عَلَى إحْدَى رِوَايَتَيْ زُفَرَ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِيهِ الْقَبْضُ أَيْضًا، وَلَسْنَا نُصَحِّحُهَا بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَالْقَبْضُ شَرْطُ الْحُكْمِ لَا مِنْ تَمَامِ السَّبَبِ وَمُسَمَّى اللَّفْظِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْقَائِلُ: إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَهُوَ يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ: يَعْنِي فَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْمَ بِإِزَاءِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَقْدِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِلَّا كَانَتْ أَسْمَاءُ الْأُمُورِ الَّتِي لَهَا غَايَاتٌ أَسْمَاءً لِتِلْكَ الْغَايَاتِ.
وَأَيْضًا فَقَصْدُ الْإِظْهَارِ لِلسَّمَاحَةِ هُوَ عَيْنُ الْمُرَاءَاةِ، وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ فِعْلِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ عَلَيْهِ، بَلْ اللَّازِمُ كَوْنُ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وُصُولَ النَّفْعِ لِلْحَبِيبِ وَالْفَقِيرِ الْأَجْنَبِيِّ، وَهَذَا أَلْيَقُ أَنْ يُجْعَلَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَعَلَى اعْتِبَارِهِ لَا يَتَحَقَّقُ الْوُصُولُ إلَّا بِمَجْمُوعِ الْقَبُولِ وَالْإِيجَابِ، وَأَقَرَّ بِهَا أَنَّهُ اسْمٌ لِلتَّبَرُّعِ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ.
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَإِنْ كَانَ تَمَامُ السَّبَبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، فَهُوَ اسْمٌ لِجُزْءِ السَّبَبِ إنْ سَلِمَ هَذَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْقَرْضُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَبُولَ الْمُسْتَقْرِضِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِي حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفًا فَلَمْ أَقْبَلْ لَا يُقْبَلُ قولهُ.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَالْإِبْرَاءُ يُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِاللَّفْظِ دُونَ قَبْضٍ.
وَالْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِلَا عِوَضٍ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ فِي الْقَرْضِ وَالْإِبْرَاءِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَقَالَ الْحَلْوَانِيُّ فِيهَا كَالْهِبَةِ.
قِيلَ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَلْحَقَ الْإِبْرَاءُ الْهِبَةَ لِعَدَمِ الْعِوَضِ، وَالْقَرْضُ بِالْبَيْعِ لِلْعِوَضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَهُ شَبَهَانِ: شَبَهٌ بِالْإِسْقَاطِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ لَا عَيْنُ مَالٍ، فَبِاعْتِبَارِهِ قُلْنَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ.
وَشَبَهٌ بِالتَّمْلِيكَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَآلَهُ إلَى عَيْنِ الْمَالِ حَتَّى جَرَتْ أَحْكَامُ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَلِهَذَا قُلْنَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يُقْبَلُ التَّعْلِيقُ، وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ كَالْهِبَةِ.
فُرُوعٌ:
حَلَفَ لَا يُوصِي بِوَصِيَّةٍ فَوَهَبَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى أَبَاهُ فِي مَرَضِهِ فَعَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَهَبَنَّهُ الْيَوْمَ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَوَهَبَهُ مِائَةً لَهُ عَلَى آخَرَ وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهَا بَرَّ، وَلَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ.
وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْعَتَّابِيِّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالْوَصِيَّةَ وَالْإِقْرَارَ وَالِاسْتِخْدَامَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَبُولُ مِنْ الْآخَرِ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدٍ: إنْ وَهَبَك فُلَانٌ مِنِّي فَأَنْتَ حُرٌّ فَوَهَبَهُ مِنْهُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ لَا يَعْتِقُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ أَوْ لَا، وَإِنْ كَانَ وَدِيعَةً فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إنْ بَدَأَ الْوَاهِبُ فَقَالَ: وَهَبْتُكَهُ لَا يُعْتَقُ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ، وَإِنْ بَدَأَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَالَ وُهِبْتُهُ مِنْك عَتَقَ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ فَوَهَبَهُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ فَأَجَازَ الْحَالِفُ الْهِبَةَ حَنِثَ كَذَا رَوَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ.
وَلَا يَهَبُ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ لَهُ عَلَى عِوَضٍ حَنِثَ.
حَلَفَ لَا يَسْتَدِينُ دَيْنًا فَتَزَوَّجَ لَا يَحْنَثُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُشَارِكُهُ ثُمَّ شَارَكَهُ بِمَالٍ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَالشَّرِيكُ هُوَ الِابْنُ لَا الْأَبُ؛ لِأَنَّهُ لَا رِبْحَ لِلْأَبِ فِي الْمَالِ، وَتَنْعَقِدُ يَمِينُ نَفْيِ الشَّرِكَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَادَاتُ النَّاسِ مِنْ الشَّرِكَةِ فِي التِّجَارَاتِ دُونَ الْأَعْيَانِ، فَلَوْ اشْتَرَيَا عَبْدًا لَمْ يَحْنَثْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: لَا يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَرِكَةٌ فِي شَيْءٍ حَيْثُ يَحْنَثُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَرِثَا شَيْئًا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشَارِكْهُ مُخْتَارًا إنَّمَا لَزِمَهُ حُكْمًا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ.

متن الهداية:
(وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ وَلَهُمَا سَاقٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَشَمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ وَرْدًا أَوْ يَاسَمِينًا لَمْ يَحْنَثْ) وَيَشَمُّ هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالشِّينِ مُضَارِعُ شَمِمْت الطِّيبَ بِكَسْرِ الْمِيمِ فِي الْمَاضِي هَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ، وَأَمَّا شَمَمْت الطِّيبَ أَشُمُّهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا فِي الْمُضَارِعِ فَقَدْ أَنْكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَالَ هُوَ خَطَأٌ وَصُحِّحَ عَدَمُهُ فَقَدْ نَقَلَهَا الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ بِفَصِيحَةٍ.
ثُمَّ يَمِينُ الشَّمِّ تَنْعَقِدُ عَلَى الشَّمِّ الْمَقْصُودِ، فَلَوْ حَلَفَ لَا يَشَمُّ طِيبًا فَوَجَدَ رِيحَهُ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ وَصَلَتْ الرَّائِحَةُ إلَى دِمَاغِهِ.
وَفِي الْمُغْرِبِ: الرَّيْحَانُ كُلُّ مَا طَابَ رِيحُهُ مِنْ النَّبَاتِ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَا لِسَاقِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ كَمَا لِوَرَقِهِ.
وَقِيلَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ مِنْ الْبُقول مِمَّا لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ.
وَقِيلَ اسْمٌ لِمَا لَيْسَ لَهُ شَجَرٌ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ثُمَّ قَال: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانِ} وَلِأَنَّ الرَّيْحَانَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَنْبُتُ مِنْ بَزْرِهِ مِمَّا لَا شَجَرَ لَهُ وَلِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ، وَشَجَرُ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ إنَّمَا الرَّائِحَةُ لِلزَّهْرِ خَاصَّةً، هَذَا وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي دِيَارِنَا إهْدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ الرَّيْحَانَ مُتَعَارَفٌ لِنَوْعٍ وَهُوَ رَيْحَانُ الْحَمَاحِمِ، وَأَمَّا كَوْنُ الرَّيْحَانِ التَّرْنَجِيِّ مِنْهُ فَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يُلْزِمُونَهُ التَّقْيِيدَ فَيُقَالُ رَيْحَانٌ تُرُنْجِيٌّ، وَعِنْدَنَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الرَّيْحَانِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْحَمَاحِمُ فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِعَيْنِ ذَلِكَ النَّوْعِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى دُهْنِهِ) اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَلِهَذَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَالشِّرَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ (وَإِنْ حَلَفَ عَلَى الْوَرْدِ فَالْيَمِينُ عَلَى الْوَرَقِ) لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ، وَفِي الْبَنَفْسَجِ قَاضٍ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا فَهُوَ عَلَى دُهْنِهِ) دُونَ وَرَقِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِوَرَقِهِ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ أَيْضًا بِعُمُومِ الْمَجَازِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ فَكَانَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بَائِعُ الْوَرَقِ لَا يُسَمَّى بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ بَائِعَ الدُّهْنِ ثُمَّ صَارَ كُلٌّ يُسَمَّى بِهِ فِي أَيَّامِ الْكَرْخِيِّ فَقَالَ بِهِ، وَأَمَّا فِي عُرْفِنَا فَيَجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إلَّا عَلَى نَفْسِ النَّبَاتِ فَلَا يَحْنَثُ بِالدُّهْنِ أَصْلًا كَمَا قَالَ فِي الْوَرْدِ وَالْحِنَّاءِ إنَّ الْيَمِينَ عَلَى شِرَائِهِمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْوَرَقِ؛ لِأَنَّهُمَا اسْمٌ لِلْوَرَقِ وَالْعُرْفُ مُقَرِّرٌ لَهُ بِخِلَافِهِ فِي الْبَنَفْسَجِ.
فُرُوعٌ مُتَفَرِّقَةُ الْأَصْنَافِ:
إذَا حَلَفَ عَلَى الدَّجَاجِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا وَكَذَا الْحَمَلُ وَالْإِبِلُ وَالْبَعِيرُ وَالْجَزُورُ وَالْبَقَرُ وَالْبَقَرَةُ وَالْبَغْلُ وَالْبَغْلَةُ وَالشَّاةُ وَالْغَنَمُ وَالْحِمَارُ وَالْخَيْلُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالتَّاءُ لِلْوَحْدَةِ، قَالَ قَائِلُهُمْ:
لَمَّا مَرَرْت بِدَيْرِ هِنْدٍ أَرَّقَنِي ** صَوْتُ الدَّجَاجِ وَضَرْبٌ بِالنَّوَاقِيسِ

وَالصَّوْتُ إنَّمَا هُوَ لِلدِّيكِ، وَفِي الْحَدِيثِ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الْبَقَرَةُ: لَا تَتَنَاوَلُ الثَّوْرَ وَلَيْسَ بِذَلِكَ، وَالثَّوْرُ وَالْكَبْشُ وَالدِّيكُ لِلذَّكَرِ، وَالْبِرْذَوْنُ لِلْعَجَمِيِّ، وَالْبَقَرُ لَا يَتَنَاوَلُ الْجَامُوسَ لِلْعُرْفِ.
حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَلَا كَذَا فَفَعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ النَّفْيِ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَكَذَلِكَ يَحْنَثُ.
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ فُلَانٌ فَجَاءَ بِحِمَّصٍ فَطَبَخَ فَأَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ وَفِيهِ طَعْمُ الْحِمَّصِ حَنِثَ، ذَكَرَهَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ.
وَعَلَى هَذَا يَجِبُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ مِنْ مَرَقِهِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ أَنْ يُقَيِّدَ بِمَا إذَا لَمْ يَجِدْ طَعْمَ اللَّحْمِ.
حَلَفَ لَا يَشْرَبُ حَرَامًا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَقَاءَ وَشَرِبَ قَيْأَهُ لَا يَحْنَثُ.
قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ سَقَيْت الْحِمَارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَذَهَبَ بِهِ فَسَقَاهُ فَلَمْ يَشْرَبْ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ سَقَاهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ.
حَلَفَ لَا يَشْرَبُ عَصِيرًا فَعُصِرَ عُنْقُودٌ فِي حَلْقِهِ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ عَصَرَهُ فِي كَفِّهِ فَحَسَاهُ حَنِثَ، أَمَّا لَوْ قَالَ: لَا يَدْخُلُ حَلْقِي حَنِثَ فِيهِمَا.
وَفِي الْفَتَاوَى: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ، أَمَّا عُرْفُنَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ حَانِثًا؛ لِأَنَّ مَاءَ الْعِنَبِ لَا يُسَمَّى عَصِيرًا فِي أَوَّلِ مَا يُعْصَرُ.
حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ لَا تَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهِيَ فِيهَا وَبَابُهَا مُغْلَقٌ وَلِلدَّارِ حَافِظٌ فَهِيَ مَعْذُورَةٌ حَتَّى يُفْتَحَ الْبَابُ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَسَوَّرَ الْحَائِطَ.
قَالَ الْفَقِيهُ: وَبِهِ نَأْخُذُ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَقُيِّدَ وَمُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ فِي بَيْتِ وَالِدِهَا: إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ فَمَنَعَهَا الْوَالِدُ مِنْ الْحُضُورِ مَنْعًا حِسِّيًّا حَنِثَ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: هَذَا فِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ، وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَبَيْنَ عَدَمِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَجْعَلُ الْمَوْجُودَ مَعْدُومًا بِالْعُذْرِ كَالْإِكْرَاهِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُجْعَلُ الْمَعْدُومُ مَوْجُودًا وَإِنْ وُجِدَ الْعُذْرُ.اهـ.
يَعْنِي وَقَدْ أُكْرِهَتْ عَلَى السُّكْنَى وَهُوَ فِعْلٌ، وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُضَافُ الْفِعْلُ إلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِجَوَابِ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ فِيمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الْيَوْمَ فَقُيِّدَ الْحَالِفُ وَمُنِعَ أَيَّامًا أَنَّهُ يَحْنَثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ سَكَنْت هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكَانَ لَيْلًا فَهِيَ مَعْذُورَةٌ حَتَّى تُصْبِحَ.
وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَهُوَ الصَّحِيحُ إلَّا لِخَوْفِ لِصٍّ وَغَيْرِهِ وَهَذَا مَا سَلَفَ الْوَعْدُ بِهِ.
قَالَ كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ وَلَهُ عَبْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يُعْتَقُ لِانْصِرَافِهِ إلَى التَّامِّ، وَمِثْلُهُ لَا آكُلُ مِمَّا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَاشْتَرَاهُ مَعَ آخَرَ فَصَارَ مُشْتَرَكًا لَا يَحْنَثُ لَوْ أَكَلَ مِنْهُ، وَيَعْتِقُ عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا يَعْتِقُ عَبْدُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ عَبْدُهُ مُسْتَغْرِقًا كَسْبَهُ وَرَقَبَتَهُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ نَوَى الْمَوْلَى عِتْقَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إنْ نَوَاهُ عَتَقَ وَإِلَّا فَلَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ نَوَاهُ عَتَقَ وَإِلَّا فَلَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ عَتَقُوا جَمِيعًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا.
قَالَ لِغَيْرِهِ وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهُوَ حَالِفٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْمُخَاطَبُ حَنِثَ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِحْلَافَ فَهُوَ اسْتِحْلَافٌ وَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَفْعَلْ.
وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ أَقْسَمْت أَوْ أَقْسَمْت بِاَللَّهِ عَلَيْك لَتَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ قَالَ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ عَلَيْك أَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَيْك فَالْحَالِفُ هُوَ الْمُبْتَدِئُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الِاسْتِفْهَامَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ أَيْضًا.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيْك عَهْدُ اللَّهِ إنْ فَعَلْت فَقَالَ: نَعَمْ فَالْحَالِفُ الْمُجِيبُ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُبْتَدِئِ وَإِنْ نَوَاهُ.
اشْتَرَى مَنًّا مِنْ اللَّحْمِ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: هُوَ أَقَلُّ مِنْ مَنٍّ وَحَلَفَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ مَنًّا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يُطْبَخُ قَبْلَ أَنْ يُوزَنَ فَلَا يَحْنَثُ هُوَ وَلَا الْمَرْأَةُ.
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ خُبْزِ خَتْنِهِ فَسَافَرَ الْخَتْنُ وَخَلَّفَ لِامْرَأَتِهِ دَقِيقًا نَفَقَةً فَأَكَلَ مِنْهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: هَذَا إذَا لَمْ يُفْرِزْ قَدْرًا لَكِنْ قَالَ لَهَا: كُلِي مِنْ دَقِيقِي بِقَدْرِ مَا يَكْفِيكِ، أَمَّا إذَا أَفْرَزَ قَدْرًا مِنْ الدَّقِيقِ وَأَعْطَاهَا إيَّاهُ صَارَ مِلْكًا لَهَا فَلَا يَحْنَثُ.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَفِي الْفَتَاوَى: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَتَنَاهَدَا فَأَكَلَ الْحَالِفُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آكِلٌ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي الْعُرْفِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
قَالَ: قُلْت لِلْقَاضِي الْإِمَامِ: لَوْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ صَبِيًّا لَا يَجُوزُ هَذَا، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ آكِلًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، قَالَ: نَعَمْ اسْتَصْوَبَنِي وَلَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْخِلَافِ.اهـ.
وَأَقول: الْفَرْقُ أَنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ لِأَكْلِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَنَاهِدَيْنِ مَالَ نَفْسِهِ عُرْفًا لَا حَقِيقَةَ، وَعَلَى الْعُرْفِ تَبْتَنِي الْأَيْمَانُ فَلَمْ يَحْنَثْ، وَعَدَمُ جَوَازِ التَّنَاهُدِ مَعَ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ آكِلٍ مَالَ نَفْسِهِ حَقِيقَةً بَلْ بَعْضُ مَالِ الصَّبِيِّ أَيْضًا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ خُبْزِ فُلَانٍ فَأَكَلَ خُبْزًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ يَحْنَثُ.
وَقَالَ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ حِصَّتَهُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَمَاتَ فُلَانٌ وَهُوَ وَارِثُهُ فَأَكَلَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَاهُ أَوْ كَانَ فَأَكَلَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا يَحْنَثُ وَإِلَّا حَنِثَ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَغِيفًا لِفُلَانٍ فَأَكَلَ رَغِيفَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَحْنَثُ.
فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: وَكَذَا دَارٌ بَيْنَ أُخْتَيْنِ قَالَ زَوْجُ إحْدَاهُمَا إنْ دَخَلْت إلَّا فِي نَصِيبِك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ فَدَخَلَتْ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا مَا دَخَلَتْ فِي غَيْرِ نَصِيبِهَا.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا لِفُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا يَحْنَثُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَزْرَعُ أَرْضَ فُلَانٍ فَزَرَعَ أَرْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَرْضِ يُسَمَّى أَرْضًا وَنِصْفَ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِنْ حَبٍّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَنِثَ.
وَلَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُشْتَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَبِيخِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِمَّا طَبَخَهُ مَعَ غَيْرِهِ حَنِثَ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ قِدْرِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِنْ قِدْرٍ طَبَخَهَا فُلَانٌ لَمْ يَحْنَثْ.
وَفِي الْأَصْلِ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ مَعَ غَيْرِهِ حَنِثَ إلَّا إذَا نَوَى شِرَاءَهُ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ أَوْ يَمْلِكُهُ فَلَبِسَ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا يَقَعُ عَلَى الْبَعْضِ.
وَمِثْلُهُ لَا يَدْخُلُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ فَدَخَلَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ مَعَ غَيْرِهِ لَا يَحْنَثُ.
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: امْرَأَةٌ وَهَبَتْ طَيْرًا فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا: إكراز نرددايكي تَوّ بحرم فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَهَبَتْ مِنْ آخَرَ فَأَكَلَ الْحَالِفُ يَحْنَثُ.
قَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ: وَعَلَى قِيَاسِ مَا يَأْتِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ.
صُورَتُهَا فِي الْفَتَاوَى: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ ثَمَنِ غَزْلِ فُلَانَةَ فَبَاعَتْ غَزْلَهَا وَوَهَبَتْ الثَّمَنَ لِابْنِهَا ثُمَّ وَهَبَ الِابْنُ لِلْحَالِفِ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا فَأَكَلَهُ لَا يَحْنَثُ.
قَالَ وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْت الْيَوْمَ إلَّا رَغِيفًا أَوْ إنْ تَغَدَّيْت بِرَغِيفٍ فَعَبْدِي حُرٌّ فَأَكَلَ رَغِيفًا ثُمَّ أَكَلَ بَعْدَهُ تَمْرًا أَوْ فَاكِهَةً حَنِثَ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْيَوْمَ إلَّا رَغِيفًا مَعَ الْخَلِّ أَوْ الزَّيْتِ أَوْ اللَّبَنِ لَا يَكُونُ حَانِثًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي الْمُجَانَسَةَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تُجَانِسُ الرَّغِيفَ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَهَذَا خِلَافُ الْأَوَّلِ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْت الْيَوْمَ أَكْثَرَ مِنْ رَغِيفٍ فَهُوَ عَلَى الْخُبْزِ خَاصَّةً.
وَفِي الْفَتَاوَى: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْخَابِيَةَ الَّتِي فِيهَا الزَّيْتُ فَأَكَلَ بَعْضَهَا حَنِثَ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَكْلِ بَيْعٌ فَبَاعَ النِّصْفَ لَا يَحْنَثُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ الْبَيْضَةَ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَأْكُلَ كُلَّهَا وَكَذَا فِي الْبَيْضَتَيْنِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الشَّيْءَ كَالرَّغِيفِ مَثَلًا فَأَكَلَ بَعْضَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: إنْ كَانَ شَيْئًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَهُ كُلَّهُ فِي مَرَّةٍ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إذَا أَكَلَ بَعْضَ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّهُ فِي مَجْلِسِهِ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: كُلُّ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ يَشْرَبُهُ فِي شَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْحَلِفُ عَلَى جَمِيعِهِ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ، لَكِنْ فِي الْفَتَاوَى لِلْقَاضِي: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ فَأَكَلَ وَبَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ يَحْنَثُ، فَإِنْ نَوَى كُلَّهُ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَلْ يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِيهِ رِوَايَتَانِ.اهـ.
وَكَأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا قَلِيلًا جِدًّا بِحَيْثُ لَا يُقَالُ إلَّا أَنَّ فُلَانًا أَكَلَ جَمِيعَ الرَّغِيفِ لِقِلَّةِ الْمَتْرُوكِ وَإِلَّا فَقَدْ سَمِعْت مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَنَصَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْبَعْضِ.
وَتَقَدَّمَ مِنْ النُّصُوصِ لَوْ قَالَ: هَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ حَنِثَ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ مِنْهُ.
قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ: قَالَ مَشَايِخُنَا: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَانِثًا؛ لِأَنَّ قولهُ: هَذَا الرَّغِيفُ عَلَيَّ حَرَامٌ بِمَنْزِلَةِ قولهِ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ هَذَا الرَّغِيفَ، وَلَوْ قَالَ هَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْبَعْضِ.
قَالَ إبْرَاهِيمُ: سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ يَقول فِيمَنْ قَالَ كُلَّمَا أَكَلْت اللَّحْمَ أَوْ كُلَّمَا شَرِبْت الْمَاءَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَأَكَلَ فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ مِنْ اللَّحْمِ فِي كُلِّ نَفَسٍ مِنْ الْمَاءِ دِرْهَمٌ.
حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَا يَحْنَثُ حَتَّى يُكَلِّمَهُمَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْحِنْثَ بِأَحَدِهِمَا فَيَحْنَثُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُهُمَا أَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ: اين دوكس سحون نكويم وَنَوَى وَاحِدًا لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ.
قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُثَنَّى يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ، فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ وَفِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ يَصِحُّ.اهـ.
فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ فِيهِ تَغْلِيظٌ عَلَى نَفْسِهِ.
وَلَوْ قَالَ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا حَنِثَ بِأَحَدِهِمَا، وَكَذَا لَوْ قَالَ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا.
وَفِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ: لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ لَا يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا ثَلَاثَةً فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دَارِ فُلَانٍ فَأَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْيَمِينِ الِامْتِنَاعُ عَنْ جَمِيعِ الْمَأْكُولَاتِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ جَمِيعَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، أَمَّا لَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَلَا شَكَّ فِي تَنَاوُلِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ.
حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ مِنْ امْرَأَتِهِ مِنْ جَنَابَةٍ فَجَامَعَهَا ثُمَّ جَامَعَ أُخْرَى أَوْ عَلَى الْعَكْسِ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَغْتَسِلْ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى الْجِمَاعِ كِنَايَةً.
وَلَوْ نَوَى حَقِيقَةَ الْغُسْلِ حَنِثَ أَيْضًا إذَا اغْتَسَلَ؛ لِأَنَّهُ اغْتَسَلَ عَنْهَا وَعَنْ غَيْرِهَا فَيَحْنَثُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الرُّعَافِ وَغَيْرِهِ حَنِثَ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحِلُّ تِكَّتَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُجَامِعُ صَحَّ وَهُوَ مُولٍ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ إنْ فَتَحَ سَرَاوِيلَهُ لِلْبَوْلِ ثُمَّ جَامَعَهَا لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ فَتْحَ سَرَاوِيلِهِ عَلَيْهَا أَنْ يَفْتَحَ لِأَجْلِ جِمَاعِهَا، وَإِنْ فَتَحَهُ لِجِمَاعِهَا وَلَمْ يُجَامِعْ قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَانِثًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَحِلُّ تِكَّتَهُ فِي الْغُرْبَةِ فَجَامَعَ مِنْ غَيْرِ حَلِّ التِّكَّةِ إنْ نَوَى عَيْنَ حَلِّهَا لَا يَحْنَثُ وَصُدِّقَ قَضَاءً، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يَحْنَثُ وَنَحْوُ هَذَا قولهُ: إنْ اغْتَسَلْت مِنْ الْحَرَامِ فَعَانَقَ أَجْنَبِيَّةً فَأَنْزَلَ قَالُوا: يُرْجَى أَنْ لَا يَكُونَ حَانِثًا وَيَكُونَ يَمِينُهُ عَلَى الْجِمَاعِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ حَلَفَتْ لَا تَغْسِلُ رَأْسَهَا مِنْ جَنَابَةِ زَوْجِهَا فَجَامَعَهَا مُكْرَهَةً قَالَ الصَّفَّارُ: أَرْجُو أَنْ لَا تَحْنَثَ.
فَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: لِأَنَّ قولهَا كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ، فَإِذَا كَانَتْ مُكْرَهَةً عَلَيْهِ لَا تَحْنَثْ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا عِنْدَ إرَادَتِهِ الْجِمَاعَ: إنْ لَمْ تُمَكِّنِينِي أَوْ لَمْ تَدْخُلِي مَعِي فِي الْبَيْتِ فَلَمْ تَفْعَلْ أَوْ فَعَلَتْ بَعْدَ سَاعَةٍ إنْ كَانَ بَعْدَ سُكُونِ شَهْوَتِهِ حَنِثَ وَإِلَّا لَا وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: حَلَفَ لَا يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ فَجَامَعَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا يَحْنَثُ، فَإِنْ قَالَ: عَنَيْت فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يَحْنَثُ بِهِمَا.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ فَعَلْت حَرَامًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَهَذَا عَلَى الْجِمَاعِ، فَإِنْ عَلِمَتْهُ بِأَنَّ فِعْلَهُ بِمُعَايَنَتِهَا بِتَدَاخُلِ الْفَرْجَيْنِ وَتَعْرِفُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَلَا زَوْجَةً أَوْ شَهِدَ عِنْدَهَا أَرْبَعَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ عَلَى الزِّنَا وَالزِّنَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِذَلِكَ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهَا كَفَى مَرَّةً لَا يَسَعُهَا الْمُقَامُ مَعَهُ، فَإِنْ جَحَدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ فَعَلَ وَلَيْسَ لِامْرَأَتِهِ بَيِّنَةٌ حَلَّفَتْهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَإِنْ حَلَفَ وَسِعَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ.
قُلْت: فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُقَيِّدُ مَسْأَلَةَ مَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَقِينًا ثُمَّ أَنْكَرَ فَإِنَّهَا لَا تُمَكِّنُهُ أَبَدًا، وَإِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ مَنْعَهُ عَنْهَا لَهَا أَنْ تَسُمَّهُ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: اكرتو باكسي حرام كِنْهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَبَانَهَا فَجَامَعَهَا فِي الْعِدَّةِ طَلُقَتْ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ عُمُومَ اللَّفْظِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ الْغَرَضَ، فَعَلَى قِيَاسِ قولهِ لَا يَحْنَثُ فَلَا تَطْلُقُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، ذَكَرَهُ فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا.
وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ إنْ فَعَلْت فَلَمْ أَفْعَلْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ يَفْعَلْ عَلَى فَوْرِ فِعْلِهِ حَنِثَ.
حَلَفَ لَا يَعْرِفُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ شَخْصَهُ وَنَسَبَهُ وَلَا يَعْرِفُ اسْمَهُ، فَفِي الْبَالِغِ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْبَالِغِ كَذَلِكَ، وَيَحْنَثُ فِي الصَّغِيرِ، وَعَلَيْهِ فُرِّعَ مَا لَوْ وُلِدَ لِرَجُلٍ وَلَدٌ فَأَخْرَجَهُ إلَى جَارٍ لَهُ وَلَمْ يُسَمِّهِ بَعْدُ فَرَآهُ الْجَارُ ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا الصَّبِيَّ يَحْنَثُ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَدَخَلَ بِهَا وَلَا يَدْرِي اسْمَهَا فَحَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا لَا يَحْنَثُ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ دُونَ اسْمِهِ لَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ مَعْرِفَةَ وَجْهِهِ فَيَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ مَا دَامَ فُلَانٌ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ فَخَرَجَ فَفَعَلَ ثُمَّ رَجَعَ فُلَانٌ فَفَعَلَهُ ثَانِيًا لَا يَحْنَثُ.
حَلَفَ لَا أَتْرُكُ فُلَانًا يَفْعَلُ كَذَا كَلَا يَمُرُّ أَوْ لَا يَذْهَبُ مِنْ هُنَا أَوْ لَا يَدْخُلُ يَبَرُّ بِقولهِ لَهُ لَا تَفْعَلْ لَا تَخْرُجْ لَا تَمُرَّ أَطَاعَهُ أَوْ عَصَاهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

.كِتَابُ الْحُدُودِ:

الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الْحُدُودِ):
لَمَّا اشْتَمَلَتْ الْأَيْمَانُ عَلَى بَيَانِ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ أَوَّلَاهَا الْحُدُودَ الَّتِي هِيَ عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ انْدِفَاعًا إلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ بِتَدْرِيجٍ، وَلَوْلَا مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ لُزُومِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ لَكَانَ إيلَاءُ الْحُدُودِ الصَّوْمَ أَوْجَهُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ الْمُغَلَّبِ فِيهَا جِهَةُ الْعُقُوبَةِ حَتَّى تَدَاخَلَتْ عَلَى مَا عُرِفَ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ الْمُغَلَّبِ فِيهَا جِهَةُ الْعِبَادَةِ، لَكِنْ كَانَ يَكُونُ التَّرْتِيبُ حِينَئِذٍ الصَّلَاةَ ثُمَّ الْأَيْمَانَ ثُمَّ الصَّوْمَ ثُمَّ الْحُدُودَ ثُمَّ الْحَجَّ، فَيَقَعُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ بِالْأَجْنَبِيِّ مَا يُبْعِدُ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَيُوجِبُ اسْتِعْمَالَ الشَّارِعِ لَهَا كَذَلِكَ، لَكِنَّهُ قَال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ، ثُمَّ مَحَاسِنُ الْحُدُودِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ بِبَيَانٍ وَتُكْتَبُ بِبَيَانٍ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ وَغَيْرَهُ يَسْتَوِي فِي مَعْرِفَةِ أَنَّهَا لِلِامْتِنَاعِ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَسَادِ؛ فَفِي الزِّنَا ضَيَاعُ الذُّرِّيَّةِ وَإِمَاتَتُهَا مَعْنًى بِسَبَبِ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ، وَلَا يَلْزَمُ بِمَوْتِ الْوَلَدِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تُهْمَةِ النَّاسِ الْبُرَآءِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِذَا نُدِبَ عُمُومُ النَّاسِ إلَى حُضُورِ حَدِّهِ وَرَجْمِهِ.
وَفِي بَاقِي الْحُدُودِ زَوَالُ الْعَقْلِ وَإِفْسَادُ الْأَعْرَاضِ وَأَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَقُبْحُ هَذِهِ الْأُمُورِ مَرْكُوزٌ فِي الْعُقول وَلِذَا لَمْ تُبَحْ الْأَمْوَالُ وَالْأَعْرَاضُ وَالزِّنَا وَالسُّكْرُ فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ وَإِنْ أُبِيحَ الشُّرْبُ، وَحِينَ كَانَ فَسَادُ هَذِهِ الْأُمُورِ عَامًّا كَانَتْ الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ مَانِعَةٌ مِنْهَا حُقُوقَ اللَّهِ عَلَى الْخُلُوصِ، فَإِنَّهَا حُقُوقُهُ تَعَالَى عَلَى الْخُصُوصِ أَبَدًا تُفِيدُ مَصَالِحَ عَامَّةً، وَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ لِلِانْزِجَارِ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ؛ وَالْعِبَارَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي بَيَانِ حِكْمَةِ شَرْعِيَّتِهَا الزَّجْرُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الزَّجْرُ يُرَادُ لِلِانْزِجَارِ عَدَلَ الْمُصَنِّفُ إلَى قولهِ الِانْزِجَارَ، إلَّا أَنَّ قولهُ: وَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ بِأَصْلِيَّةٍ إلَى آخِرِهِ: أَيْ الطَّهَارَةُ مِنْ ذَنْبٍ بِسَبَبِ الْحَدِّ يُفِيدُ أَنَّهُ مَقْصُودٌ أَيْضًا مِنْ شَرْعِيَّتِهَا لَكِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ الِانْزِجَارِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَعْمَلُ فِي سُقُوطِ إثْمٍ قَبْلَ سَبَبِهِ أَصْلًا، بَلْ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ، وَأَمَّا ذَلِكَ فَقول طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِه: «إنَّ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِقولهِ تَعَالَى فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ذَلِكَ أَيْ التَّقْتِيلُ وَالصَّلْبُ وَالنَّفْيُ بِأَنَّ: {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فَأَخْبَرَ أَنَّ جَزَاءَ فِعْلِهِمْ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ وَعُقُوبَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ، إلَّا مَنْ تَابَ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَسْقُطُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ.
وَبِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ فِي الدُّنْيَا، وَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى مَا إذَا تَابَ فِي الْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ضَرْبَهُ أَوْ رَجْمَهُ يَكُونُ مَعَهُ تَوْبَةٌ مِنْهُ لِذَوْقِهِ مُسَبَّبَ فِعْلَهُ فَيُقَيَّدُ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَتَقْيِيدُ الظَّنِّيِّ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْقَطْعِيِّ لَهُ مُتَعَيِّنٌ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ لِلطُّهْرَةِ فَأَدَّاهُ بِعِبَارَةٍ غَيْرِ جَيِّدَةٍ، وَلِذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِشَرْعِيَّتِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَلَا طُهْرَةَ فِي حَقِّهِ مِنْ الذَّنْبِ بِالْحَدِّ: يَعْنِي أَنَّ عُقُوبَةَ الذَّنْبِ لَمْ تَرْتَفِعْ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ بَلْ بِالتَّوْبَةِ مَعَهُ إنْ وُجِدَ، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عِبَادَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَأَمَّا مَنْ يَقول: إنَّ الْحَدَّ بِمُجَرَّدِهِ يُسْقِطُ إثْمَ ذَلِكَ السَّبَبِ الْخَاصِّ الَّذِي حُدَّ بِهِ، فَإِنْ قَالَ: إنَّ الْحَدَّ لَا يُسْقِطُ عَنْ الْكَافِرِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ فِي ذَلِكَ إذْ السَّمْعُ إنَّمَا يُوجِبُ لُزُومَ عُقُوبَةِ الْكُفْرِ فِي حَقِّهِ لَا بِتَضَاعُفِ عَذَابِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْحَدَّ مُسْقِطًا لِعُقُوبَةِ مَعْصِيَةٍ صَارَ الْفَاعِلُ لَهَا إذَا حُدَّ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا لَمْ يَفْعَلْهَا فَلَا يُضَمُّ إلَى عَذَابِ الْكُفْرِ عَذَابُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ إذَا حُدَّ بِهَا الْكَافِرُ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الْحَدِّ مُسْقِطًا بِأَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ التَّكْفِيرِ بِمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ الْمَكَارِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ تَحْقِيقُ الْعِبَارَةِ مَا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّهَا مَوَانِعُ قَبْلَ الْفِعْلِ زَوَاجِرُ بَعْدَهُ: أَيْ الْعِلْمُ بِشَرْعِيَّتِهَا يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِيقَاعُهَا بَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْعَوْدِ إلَيْهِ.

متن الهداية:
قَالَ: الْحَدُّ لُغَةً: هُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ: هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ.
وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ، وَالطَّهَارَةُ لَيْسَتْ أَصْلِيَّةً فِيهِ بِدَلِيلِ شَرْعِهِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (الْحَدُّ لُغَةً الْمَنْعُ) وَعَلَيْهِ قول نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
إلَّا سُلَيْمَانَ إذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ **قُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنْ الْفَنَدِ

وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الْقول وَالْفِعْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلَامُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَعْلَمُ فِي شَرْحِ دِيوَانِهِ، وَكُلُّ مَانِعِ شَيْءٍ فَهُوَ حَادٌّ لَهُ، وَحَدَّادٌ إذَا صِيغَ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَوَّابِ لِمَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ وَالسَّجَّانُ حَدَّادٌ لِمَنْعِهِ مِنْ الْخُرُوجِ بِلَا شَكٍّ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ الَّذِي اسْتَشْهَدَ بِهِ لَا يُفِيدُ، وَهُوَ قولهُ:
يَقول لِي الْحَدَّادُ وَهُوَ يَقُودُنِي **إلَى السِّجْنِ لَا تَجْزَعْ فَمَا بِك مِنْ بَاسِ

فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ الْقَائِلِ الَّذِي كَانَ يَقُودُهُ هُوَ السَّجَّانَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ مِمَّنْ يُوصِلُهُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ حَدَّادٌ لَهُ إذْ يَمْنَعُهُ مِنْ الذَّهَابِ إلَى حَالِ سَبِيلِهِ، وَلِلْخَمَّارِ حَدَّادٌ لِمَنْعِهِ الْخَمْرَ فِي قول الْأَعْشَى:
فَقُمْنَا وَلَمَّا يَصِحْ دِيكُنَا ** إلَى جَوْنَةٍ عِنْدَ حَدَّادِهَا

وَسَمَّى أَهْلُ الِاصْطِلَاحِ الْمُعَرِّفَ لِلْمَاهِيَّةِ حَدًّا لِمَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَحُدُودُ الدَّارِ نِهَايَاتُهَا لِمَنْعِهَا عَنْ دُخُولِ مِلْكِ الْغَيْرِ فِيهَا وَخُرُوجِ بَعْضِهَا إلَيْهِ.
وَفِي الشَّرْعِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ حَقًّا لِلَّهِ، فَلَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ نَوْعٌ مِنْهُ وَهُوَ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ لَكِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي الضَّرْبِ بَلْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنْ حَبْسٍ وَعَرْكِ أُذُنٍ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَفِي اصْطِلَاحٍ آخَرَ لَا يُؤْخَذُ الْقَيْدُ الْأَخِيرُ فَيُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا، فَالْحَدُّ هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ شَرْعًا غَيْرَ أَنَّ الْحَدَّ عَلَى هَذَا قِسْمَانِ: مَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَفْوُ، وَمَا لَا يَقْبَلُهُ.
وَعَلَى الْأَوَّلِ الْحَدُّ مُطْلَقًا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَعَلَيْهِ ابْتَنَى عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِيهِ فَإِنَّهَا طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَلِذَا أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَال: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَأَمَّا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْإِمَامِ وَالثُّبُوتِ عِنْدَهُ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُطْلِقَهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّام وَقَالَ: إذَا بَلَغَ إلَى الْإِمَامِ فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ إنْ عَفَا، وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ، فَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ بَلْ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ الثُّبُوتِ عِنْدَهُ.

متن الهداية:
قَالَ: (الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ لِأَنَّ الصِّدْقَ فِيهِ مُرَجَّحٌ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِهِ مَضَرَّةٌ وَمَعَرَّةٌ، وَالْوُصُولُ إلَى الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ مُتَعَذِّرٌ، فَيُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ.
قَالَ: (فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِالزِّنَا) لِقولهِ تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَه: «ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِكَ» وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ يَتَحَقَّقُ مَعْنَى السَّتْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَالْإِشَاعَةُ ضِدُّهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) ابْتَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا لِكَثْرَةِ وُقُوعِ سَبَبِهِ مَعَ قَطْعِيَّتِهِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكْثُرُ كَثْرَتَهُ، وَالشُّرْبُ وَإِنْ كَثُرَ فَلَيْسَ حَدُّهُ بِتِلْكَ الْقَطِيعَةِ، وَالزِّنَا مَقْصُورٌ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} وَتُمَدُّ فِي لُغَةِ نَجْدٍ، وَعَلَيْهَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
أَبَا طَاهِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِنَاؤُهُ ** وَمَنْ يَشْرَبْ الْخُرْطُومَ يُصْبِحْ مُسْكِرًا

بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِهَا مِنْ التَّسْكِيرِ، وَالْخُرْطُومُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، قَالَ: وَالْمُرَادُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، أَمَّا ثُبُوتُهُ فِي نَفْسِهِ فَبِإِيجَادِ الْإِنْسَانِ لِلْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ تَعْرِيفَ الزِّنَا فِي بَابِ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَهُنَاكَ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، وَخُصَّ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ لِنَفْيِ ثُبُوتِهِ بِعِلْمِ الْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَا سَائِرُ الْحُدُودِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَنَقَلَ قولا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ دُونَ الْحَاصِلِ بِمُشَاهَدَةِ الْإِمَامِ.
قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ اعْتِبَارَهُ بِقولهِ تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} وَنُقِلَ فِيهِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، وَقول الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ تَعْلِيلٌ لِلْوَاقِعِ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ فَإِنَّهَا يَثْبُتُ بِهَا غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَحَاصِلُهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْقَطْعُ اكْتَفَى بِالظَّاهِرِ، وَهُوَ فِي الْبَيِّنَةِ وَفِي الْإِقْرَارِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِسَبَبِ الْحَدِّ يَسْتَلْحِقُ مَضَرَّةً فِي الْبَدَنِ وَمَعَرَّةً فِي الْعَرْضِ تُوجِبُ نِكَايَةً فِي الْقَلْبِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا مَعَ الصِّدْقِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْآخِرَةِ عَلَى الْقول بِسُقُوطِهِ بِالْحَدِّ إنْ لَمْ يَتُبْ وَقَصْدًا إلَى تَحْقِيقِ النِّكَايَةِ لِنَفْسِهِ إذْ وَرْطَتُهُ فِي أَسْبَابِ سُخْطِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَنَالَ دَرَجَةَ أَهْلِ الْعَزْمِ.
قولهُ: (فَالْبَيِّنَةُ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ) لَيْسَ فِيهِمْ امْرَأَةٌ (عَلَى رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِالزِّنَا)، وَيَجُوزُ كَوْنُ الزَّوْجِ مِنْهُمْ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، هُوَ يَقول هُوَ مُتَّهَمٌ وَنَحْنُ نَقول: التُّهْمَةُ مَا تُوجِبُ جَرَّ نَفْعٍ، وَالزَّوْجُ مُدْخِلٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ لُحُوقَ الْعَارِ وَخُلُوَّ الْفِرَاشِ خُصُوصًا إذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الشُّهُودُ أَرْبَعًا لِقولهِ تعالى: {فَاسْتُشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَالَ تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا: يَعْنِي هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ «ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِكَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» فَلَمْ يُحْفَظْ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَاَلَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» نَعَمْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ، فَرَفَعَتْهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعَةَ شُهُودٍ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» وَالْمَسْأَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعَةِ قَطْعِيَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ حِكْمَةَ اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ تَحْقِيقُ مَعْنَى السَّتْرِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِنَفْيِ قول مَنْ قَالَ: إنَّ حِكْمَتَهُ أَنَّ شَهَادَةَ الزِّنَا تَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ عَلَى اثْنَيْنِ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ يَحْتَاجُ إلَى اثْنَيْنِ فَلَزِمَتْ الْأَرْبَعَةُ، أَمَّا إنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ مَعْنَى السَّتْرِ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَثُرَتْ شُرُوطُهُ قَلَّ وُجُودُهُ، فَإِنَّ وُجُودَهُ إذَا تَوَقَّفَ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَيْسَ كَوُجُودِهِ إذَا تَوَقَّفَ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا فَيَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ الِانْدِرَاءُ.
وَأَمَّا إنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَلِمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: «مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً» وَإِذَا كَانَ السَّتْرُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِهِ خِلَافَ الْأُولَى الَّتِي مَرْجِعُهَا إلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ؛ لِأَنَّهَا فِي رُتْبَةِ النَّدْبِ فِي جَانِبِ الْفِعْلِ وَكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ فِي جَانِبِ التَّرْكِ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدْ الزِّنَا وَلَمْ يَتَهَتَّكْ بِهِ، أَمَّا إذَا وَصَلَ الْحَالُ إلَى إشَاعَتِهِ وَالتَّهَتُّكِ بِهِ بَلْ بَعْضُهُمْ رُبَّمَا افْتَخَرَ بِهِ فَيَجِبُ كَوْنُ الشَّهَادَةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا؛ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ إخْلَاءُ الْأَرْضِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ بِالْخِطَابَاتِ الْمُفِيدَةِ لِذَلِكَ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ الْفَاعِلِينَ وَالزَّجْرِ لَهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ حَالُ الشَّرَهِ فِي الزِّنَا مَثَلًا وَالشُّرْبِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِهِ وَإِشَاعَتُهُ فَإِخْلَاءُ الْأَرْضِ الْمَطْلُوبِ حِينَئِذٍ بِالتَّوْبَةِ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ ظُهُورُ عَدَمِهَا مِمَّنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ تَحْقِيقُ السَّبَبِ الْآخَرِ لِلْإِخْلَاءِ وَهُوَ الْحُدُودُ، بِخِلَافِ مَنْ زَنَى مَرَّةً أَوْ مِرَارًا مُتَسَتِّرًا مُتَخَوِّفًا مُتَنَدِّمًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الشَّاهِدِ.
وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِهُزَالٍ فِي مَاعِزٍ «لَوْ كُنْت سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ» الْحَدِيثَ، وَسَيَأْتِي كَانَ فِي مِثْلِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا ذِكْرُهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغِيبَةِ فِيهِ يَحْرُمُ مِنْهُ مَا يَحْرُمُ مِنْهَا وَيَحِلُّ مِنْهُ مَا يَحِلُّ مِنْهَا.
وَأَمَّا إنَّ الْمُخْتَارَ فِي الْحِكْمَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلِأَنَّ شَهَادَةَ الِاثْنَيْنِ كَمَا تَكُونُ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً عَلَى أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةَ قَتَلُوا فُلَانًا وَنَحْوَهُ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.

متن الهداية:
(وَإِذَا شَهِدُوا سَأَلَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَمَتَى زَنَى وَبِمَنْ زَنَى؟) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ عَسَاهُ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْفَرْجِ عَنَاهُ أَوْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنْ الزَّمَانِ أَوْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ لَا يَعْرِفُهَا هُوَ وَلَا الشُّهُودُ كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَسْتَقْصِي فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ (فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ) وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْحُدُودِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَتَعْدِيلُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ نُبَيِّنُهُ فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ فِي الْأَصْلِ: يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلِاتِّهَامِ بِالْجِنَايَةِ وَقَدْ حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ، بِخِلَافِ الدُّيُونِ حَيْثُ لَا يُحْبَسُ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَسَيَأْتِيك الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا سَأَلَهُمْ الْحَاكِمُ) عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ (عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَمَتَى زَنَى وَبِمَنْ زَنَى) ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ الْمَطْلُوبَ شَرْعًا فِي ذَلِكَ فَهَذَا الْوَجْهُ يَعُمُّ الْخَمْسَةَ، وَالسَّمْعِيُّ مُقْتَصِرٌ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا.
فَحَاصِلُهُ اسْتِدْلَالُهُ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا بِدَلِيلَيْنِ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ فِي اسْتِفْسَارِ الشُّهُودِ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِاسْتِفْسَارِ الْمُقِرِّ وَهُوَ مَاعِزٌ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ عِلَّةَ اسْتِفْسَارِهِ بِعَيْنِهِمَا ثَابِتَةٌ فِي الشُّهُودِ كَمَا سَتُسْمَعُ فَوَجَبَ اسْتِفْسَارُهُمْ.
أَمَّا إنَّهُ اسْتَفْسَرَهُ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ فَفِيمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: «جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ، فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ فَقَالَ: أَنِكْتَهَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا، قَالَ نَعَمْ؟ قَالَ: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَكَمَا يَغِيبُ الرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ حَلَالًا، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقول؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقول أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اُنْظُرْ إلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ فَقَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَقَالَا: نَحْنُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ، فَقَالَا: وَمَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عَرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ الْأَكْلِ مِنْهُ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا» وَأَمَّا اسْتِفْسَارُهُ عَنْ الْمُزَنِيَّةِ فَفِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ هُزَالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ فِي حِجْرِ أَبِي فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنْ: الْحَيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْتَ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ، قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَعَادَ حَتَّى قَالَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَبِمَنْ؟ قَالَ بِفُلَانَةَ قَالَ: هَلْ ضَاجَعْتَهَا؛ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: هَلْ بَاشَرْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ جَامَعْتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ، فَأُخْرِجَ إلَى الْحَرَّةِ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَقَدْ عَجَزَ أَصْحَابُهُ فَنَزَعَ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فَقَالَ فِيه: «فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ فَرُجِمَ، فَلَمْ يُقْتَلْ حَتَّى رَمَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِلَحْيِ بَعِيرِهِ فَأَصَابَ رَأْسَهُ فَقَتَلَهُ» وَأَمَّا إنَّ فِي الِاسْتِفْسَارِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الِاحْتِيَاطَ فَمَا قَالَ: لِأَنَّهُ عَسَاهُ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْفَرْجِ عَنَاهُ بِأَنْ ظَنَّ مُمَاسَّةَ الْفَرْجَيْنِ حَرَامًا زِنًا، أَوْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ مُحَرَّمٍ زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَشْهَدُ بِالزِّنَا، فَلِهَذَا الِاحْتِمَالِ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ كَانَ مُكْرَهًا وَيَرَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ فَيَكُونُ مُخْتَارًا فِيهِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَشْهَدُ بِهِ فَلِهَذَا سَأَلَهُ عَنْ كَيْفِيَّتِهِ.
وَفِي التَّحْقِيقِ هُوَ حَالَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالزَّانِي نَفْسِهِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ عِنْدَنَا فَلِهَذَا سَأَلَهُمْ أَيْنَ زَنَى، وَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ فِي زَمَانٍ مُتَقَادِمٍ وَلَا حَدَّ فِيهِ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ فِي زَمَنِ صِبَاهُ فَلِهَذَا سَأَلَهُمْ مَتَى زَنَى، وَحَدُّ التَّقَادُمِ سَيَأْتِي، ثُمَّ يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْمُزْنَى بِهَا مِمَّنْ لَا يُحَدُّ بِزِنَاهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَجَارِيَةِ ابْنِهِ أَوْ كَانَتْ جَارِيَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ وَلَا يَعْلَمُهَا الشُّهُودُ كَمَا قَالَ الْمُغِيرَةُ حِينَ شُهِدَ عَلَيْهِ كَيْفَ حَلَّ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي بَيْتِي وَكَانَتْ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمْ كُوَّةٌ يَبْدُو مِنْهَا لِلنَّاظِرِ مَا فِي بَيْتِ الْمُغِيرَةِ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فَشَهِدُوا، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: وَاَللَّهِ مَا أَتَيْت إلَّا امْرَأَتِي، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَرَأَهُ عَنْهُ بِعَدَمِ قول زِيَادٍ وَهُوَ الرَّابِعُ رَأَيْته كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ فَحَدَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الثَّلَاثَةَ وَلَمْ يَحُدَّهُ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَ إلَيْهِ الزِّنَا، بَلْ قَالَ رَأَيْت قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ وَأَنْفَاسًا عَالِيَةً وَلَحَافًا يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَنْ يَتُوبُوا فَتَابَ اثْنَانِ فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَتُوبَ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ لَا تُقْبَلُ حَتَّى مَاتَ وَعَادَ مِثْلَ الْعُضْوِ مِنْ الْعِبَادَةِ.اهـ.
فَلِهَذَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ الْمُزْنَى بِهَا مَنْ هِيَ، وَقِيَاسُهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى زِنَا امْرَأَةٍ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ الزَّانِي بِهَا مَنْ هُوَ، فَإِنَّ فِيهِ أَيْضًا الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ وَزِيَادَةً، وَهُوَ جَوَازُ كَوْنِهِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا إنْ مَكَّنَتْ أَحَدَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَدٌّ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَلَوْ سَأَلَهُمْ فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى قولهِمْ أَنَّهُمَا زَنَيَا لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزِّنَا وَلَمْ يَثْبُتْ قَذْفُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا مَا يَنْفِي كَوْنَ مَا ذَكَرُوهُ زِنًا لِيَظْهَرَ قَذْفُهُمْ لِغَيْرِ الزَّانِي بِالزِّنَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَفُوهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ، وَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ فُسَّاقٌ بِالزِّنَا لَا يُقْضَى بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا يُحَدُّونَ؛ لِأَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُقْبَلُونَ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ أَرْبَعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَأَبَى الرَّابِعُ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا قَذْفٌ، لَكِنْ عِنْدَ تَمَامِ الْحُجَّةِ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، فَلَمَّا لَمْ يَتِمَّ بِامْتِنَاعِهِ بَقِيَ كَلَامُ الثَّلَاثَةِ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ، وَلَوْ شَهِدُوا فَسَأَلَهُمْ فَبَيَّنَ ثَلَاثَةٌ وَلَمْ يَزِدْ وَاحِدٌ عَلَى الزِّنَا لَا يُحَدُّ، وَمَا وَقَعَ فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الرَّابِعَ لَوْ قَالَ: إنَّهُ زَانٍ فَسُئِلَ عَنْ صِفَتِهِ فَلَمْ يَصِفْهُ أَنَّهُ يُحَدُّ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ لِلْقَاضِي فِي مَجْلِسٍ غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ الثَّلَاثَةُ.
قولهُ: (وَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ) وَهِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْحَاءِ، وَهُوَ حَاصِلُ جَوَابِ السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الزِّنَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ، بِأَنْ يَبْعَثَ وَرَقَةً فِيهَا أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ مَحَلَّتِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَيَّزُ كُلٌّ مِنْهُمْ لِمَنْ يَعْرِفُهُ فَيَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ هُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ، وَالْعَلَانِيَةُ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ فَيَقول هَذَا هُوَ الَّذِي عَدَّلْته حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَهُوَ الْحُكْمُ بِوُجُوبِ حَدِّهِ، وَهَذَا مَا وَعَدَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَهُ فِي الشَّهَادَاتِ، وَبَقِيَ شَرْطٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَنَقَلَ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِحُرْمَةِ الزِّنَا إجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْلِمًا لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ فِسْقٌ كَمَا اكْتَفَى بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَمْوَالِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ.
وَلَمَّا كَانَ لُزُومُ هَذَا عَلَى الْحَاكِمِ مَوْقُوفًا عَلَى ثُبُوتِ إيجَابِ الدَّرْءِ مَا أَمْكَنَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهَا مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ وَيَزِيدُ ضَعِيفٌ.
وَأَسْنَدَ فِي عِلَلِهِ عَنْ الْبُخَارِيِّ يَزِيدُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ذَاهِبٌ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْمَوْقُوفُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ دَرْءُ الْحَدِّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ أَقْوَى، وَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ ذِكْرًا لِمُسْتَنِدِ الْإِجْمَاعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ عَدَالَةَ الشُّهُودِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ يُغْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْحَاصِلِ لَهُ مِنْ تَعْدِيلِ الْمُزَكَّى، وَلَوْلَا مَا ثَبَتَ مِنْ إهْدَارِ الشَّرْعِ عِلْمُهُ بِالزِّنَا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ بِالسَّمْعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَكَانَ يَحُدُّهُ بِعِلْمِهِ، لَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ هُنَاكَ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَعْدِيلِ الشُّهُودِ إهْدَارُ عِلْمِهِ بِعَدَالَتِهِمْ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ.
قولهُ: (قَالَ فِي الْأَصْلِ) أَيْ قَالَ إذَا وَصَفَ الشُّهُودُ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ يَحْبِسُ الْقَاضِي الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ وَقَدْ يَهْرُبُ، وَلَا وَجْهَ لِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ وَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ: الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَبْسِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ.
أَجَابَ بِأَنَّ حَبْسَهُ لَيْسَ لِلِاحْتِيَاطِ بَلْ هُوَ تَعْزِيرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالْفَوَاحِشِ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ بَعْدُ، وَحَبْسُ الْمُتَّهَمِينَ تَعْزِيرًا لَهُمْ جَائِزٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا بِالدَّيْنِ لَا يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ أَقْصَى الْعُقُوبَاتِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ وَالْقَضَاءِ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ الْحَبْسُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ، بِخِلَافِ مَا هُنَا فَإِنَّ بَعْدَ الثُّبُوتِ عُقُوبَتَهُ أَغْلَظُ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ الَّذِي وَعَدَهُ الْمُصَنِّفُ بِقولهِ: وَسَيَأْتِيك الْفَرْقُ.
وَأَمَّا قولهُ حَبَسَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ، فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ» زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ «ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي غِفَارٍ حَتَّى نَزَلَا بِضَجِنَانَ مِنْ مِيَاهِ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَهُمَا نَاسٌ مِنْ غَطَفَانَ مَعَهُمْ ظَهْرٌ لَهُمْ، فَأَصْبَحَ الْغَطَفَانِيُّونَ وَقَدْ فَقَدُوا بَعِيرَيْنِ مِنْ إبِلِهِمْ وَاتَّهَمُوا الْغِفَارِيَّيْنِ، فَأَتَوْا بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَبَسَ أَحَدَ الْغِفَارِيَّيْنِ وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ فَلَمْ يَكُ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ بِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِ الْغِفَارِيَّيْنِ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَلَكَ وَقَتَلَكَ فِي سَبِيلِهِ، فَقَالَ: فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ».

متن الهداية:
قَالَ: (وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ، كَمَا أَقَرَّ رَدَّهُ الْقَاضِي) فَاشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ قول الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ.
وَاشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ مَذْهَبُنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَكْتَفِي بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ، وَتَكْرَارُ الْإِقْرَارِ لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ الظُّهُورِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ.
وَلَنَا حَدِيثُ مَاعِزٍ؛ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَّرَ الْإِقَامَةَ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ مِنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ، فَلَوْ ظَهَرَ بِمَا دُونَهَا لَمَا أَخَّرَهَا لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ اخْتَصَّتْ فِيهِ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَكَذَا الْإِقْرَارُ إعْظَامًا لِأَمْرِ الزِّنَا وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ؛ فَعِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْإِقْرَارُ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِهِ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي.
وَالِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ، هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) قَدَّمَ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَا أَقْوَى حَتَّى لَا يَنْدَفِعَ الْحَدُّ بِالْفِرَارِ وَلَا بِالتَّقَادُمِ، وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْإِقْرَارُ قَاصِرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ صَرِيحًا وَلَا يَظْهَرُ كَذِبُهُ، وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ أَقَرَّ الْأَخْرَسُ بِالزِّنَا بِكِتَابَةٍ أَوْ إشَارَةٍ لَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ بِعَدَمِ الصَّرَاحَةِ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَدَّعِيَ شُبْهَةً كَمَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى مَجْنُونٍ أَنَّهُ زَنَى فِي حَالِ إفَاقَتِهِ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى صَحَّ إقْرَارُهُ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْخَصِيُّ وَالْعِنِّينُ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ فَظَهَرَ مَجْبُوبًا أَوْ أَقَرَّتْ فَظَهَرَتْ رَتْقَاءَ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُخْبِرَ النِّسَاءَ بِأَنَّهَا رَتْقَاءُ قَبْلَ الْحَدِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إخْبَارَهُنَّ بِالرَّتْقِ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَبِالشُّبْهَةِ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِخَرْسَاءَ أَوْ أَقَرَّتْ أَنَّهَا زَنَتْ بِأَخْرَسَ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ تَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ فَنَفَاهُ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْعَسِيفِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَلَمْ يَقُلْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَلِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ لَمْ تُقِرَّ أَرْبَعًا وَإِنَّمَا رَدَّ مَاعِزًا؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ لَهُ أَبِك جُنُونٌ.
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ، فَقَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَنَفَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ، وَاكْتَفَوْا بِالْأَرْبَعِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.
وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ظَاهِرٌ فِيهِ وَهُوَ مَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى بَيَّنَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ» فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.
قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ لَكِنْ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إفَادَةِ أَنَّهَا فِي مَجَالِسَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ «أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ مِنْ الْغَدِ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ هَلْ تَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا؟ فَقَالُوا مَا نَعْلَمُهُ إلَّا وَفِي الْعَقْلِ مِنْ صَالِحِينَا، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً فَرَجَمَهُ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: «أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ مَرَّةً فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ الثَّانِيَةَ فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ الثَّالِثَةَ فَرَدَّهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إنْ اعْتَرَفْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ، قَالَ: فَاعْتَرَفَ الرَّابِعَةَ فَحَبَسَهُ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» فَصَرَّحَ بِتَعْدَادِ الْمَجِيءِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ غَيْبَتَهُ، وَنَحْنُ إنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ إذَا تَغَيَّبَ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ مَجْلِسٌ آخَرُ.
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: «جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ الْأَبْعَدَ زَنَى، فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ وَمَا يُدْرِيكَ مَا الزِّنَا فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ وَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ وَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ وَأُخْرِجَ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: أَدْخَلْتَ وَأَخْرَجْتَ؟ قَالَ نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ» فَهَذِهِ وَغَيْرُهَا مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ ظَاهِرٌ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَيْهَا وَأَنَّ قولهُ فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ مَعْدُودٌ مَعَ قولهِ الْأَوَّلِ إقْرَارًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ.
وَقولهُ حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَيْ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الْمُكْتَفِينَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَأَمَّا كَوْنُ الْغَامِدِيَّةِ لَمْ تُقِرَّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَمْنُوعٌ، بَلْ أَقَرَّتْ أَرْبَعًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا عِنْدَ أَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا لَمْ يَطْلُبْهُمَا، وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بَعْدَ الرَّابِعَةِ.
فَهَذَا نَصٌّ فِي إقْرَارِهَا أَرْبَعًا، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ تَفَاصِيلَهَا، وَالرُّوَاةُ كَثِيرًا مَا يَحْذِفُونَ بَعْضَ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى أَنَّهُ رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ سُلَيْمٍ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ، وَفِيه: «أَنَّهَا أَقَرَّتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَهُوَ يَرُدُّهَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي» الْحَدِيثَ غَيْرَ أَنَّهُ فِيهِ مَجْهُولًا تَتَمَيَّزُ جَهَالَتُهُ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ رَدَّ مَاعِزًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَانَ لِاسْتِرَابَتِهِ فِي عَقْلِهِ، فَإِنْ سَلِمَ لَا يَتَوَقَّفُ عِلْمُ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَالثَّلَاثَةُ مَوْضُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ جُعِلَ ثَلَاثًا؛ لِأَنَّ عِنْدَهَا لَا يُعْذَرُ الْمَغْبُونُ، وَالْمُرْتَدُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ ثَلَاثًا لِيُرَاجِعَ نَفْسَهُ فِي شُبْهَتِهِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَرْبَعَةُ عَدَدًا مُعْتَبَرًا فِي اعْتِبَارِ إقْرَارِهِ لَمْ يُؤَخَّرْ رَجْمُهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَرْتِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّتِهَا، وَكَذَا الصَّحَابَةُ، فَمِنْ ذَلِكَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ هُزَال: «إنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعًا فَبِمَنْ زَنَيْتَ» وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ هُزَالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ فِي حِجْرِ أَبِي فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنْ الْحَيِّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ.
وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ.
قَالَ هِشَامٌ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ عَنْ أَبِيه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ رَآهُ: وَاَللَّهِ يَا هُزَالُ لَوْ كُنْت سَتَرْتَهُ بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك مِمَّا صَنَعْت بِهِ» قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إسْنَادُهُ صَالِحٌ، وَيَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَأَبُوهُ نُعَيْمٌ ذُكِرَ فِي الثِّقَاتِ أَيْضًا وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ.
وَقَدْ رَوَى تَرْتِيبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَرْبَعِ جَمَاعَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ: فَمِنْهَا مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهَا فِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «إنَّك قَدْ شَهِدْت عَلَى نَفْسِك أَرْبَعَ مَرَّاتٍ» وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ «أَلَيْسَ إنَّك قَدْ قُلْتهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ» وَتَقَدَّمَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «إنْ اعْتَرَفْت الرَّابِعَةَ رَجَمَك» إلَّا أَنَّ فِي إسْنَادِهِ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ، وَكَوْنُهُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ رَدَّهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَمِنْ اخْتِصَارِ الرَّاوِي، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقَرَّ أَرْبَعًا.
وَقولهُ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ «شَهِدْت عَلَى نَفْسِك» يُؤْنَسُ مِنْهُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَةِ، فَكَمَا أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا أَرْبَعًا عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ فِي غَيْرِهِ فَكَذَا يُعْتَبَرُ فِي إقْرَارِهِ إنْزَالًا لِكُلِّ إقْرَارٍ مَنْزِلَةَ شَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَكَانَ النَّظَرُ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ، وَإِذَنْ فَقولهُ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ «فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» مَعْنَاهُ الِاعْتِرَافُ الْمَعْهُودُ فِي الزِّنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ خَاصَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ، هَذَا وَنُقِلَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اسْتِفْسَارِ مَاعِزٍ أَنَّهُ رَجَمَهُ بَعْدَ الْخَامِسَةِ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ عَدَّ آحَادَ الْأَقَارِيرِ فَإِنَّ فِيهَا إقْرَارَيْنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْجَمْعِ فَكَانَتْ خَمْسًا.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ كَوْنُ رَدِّهِ لِيَرْجِعَ.
قُلْنَا: يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَهُ بِالرُّجُوعِ وَلَكِنْ فِي مَجْلِسِ الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ.
وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ الْمُوجِبُ هُوَ الْأَوَّلَ لَلَقَّنَهُ بَعْدَهُ لَا أَنَّهُ يُطْلِقُهُ مُخْتَارًا فِي إطْلَاقِهِ لِيَذْهَبَ، وَقَدْ لَا يَرْجِعُ هَكَذَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَهَذَا لِمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِقَامَةَ مُخَاطَبٌ بِهَا الْإِمَامُ بِالنَّصِّ إذَا ثَبَتَ السَّبَبُ عِنْدَهُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ وَإِلَّا فَاتَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِيجَابِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ قَبْلَ رُجُوعِهِ فَإِيجَابُ السَّبَبِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الرُّجُوعِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ جَوَازَ رَدِّهِ وَإِخْرَاجِهِ لِيَذْهَبَ وَيَرْجِعَ وَقَدْ لَا يَرْجِعُ بَلْ يَذْهَبُ إلَى حَالِ سَبِيلِهِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْإِقْرَارِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَقول فِي نَفْسِهِ: إنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذَا الْحَقِّ لَا يُوجِبُ شَيْئًا عَلَى الْإِمَامِ فَيَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ مُصِرًّا عَلَى إقْرَارِهِ غَيْرَ رَاجِعٍ عَنْهُ خُصُوصًا فِي زَمَنٍ لَمْ تُعْرَفْ فِيهِ تَفَاصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلنَّاسِ بَعْدُ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ «أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ قَالَتْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْت مَاعِزًا؟ وَاَللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى مِنْ الزِّنَا»، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لِأَحَدٍ بَلْ لَمَّا قَالَتْهُ قَالَ: «أَمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِصَبِيٍّ فِي خِرْقَةٍ فَقَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْته، قَالَ: فَاذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ قَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْته وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحَفَرَ لَهَا إلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْجُمُوهَا فَرَجَمُوهَا، فَنَقَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إيَّاهَا فَقَالَ: مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» وَلَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُ اعْتَبَرَ قولهَا فَلَمْ يَرُدَّهَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ رَدَّهَا وَغَيَّاهُ إلَى وِلَادَتِهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى فِطَامِهَا لِاتِّفَاقِ الْحَالِ بِأَنْ تَثْبُتَ مَعَ ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّدِّ مُطْلَقًا سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي خُصُوصِ هَذَا الرَّدِّ، وَلَعَلَّهَا كُلَّمَا رَجَعَتْ إلَيْهِ يَصْدُرُ مِنْهَا مَا هُوَ إقْرَارٌ.
إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي مَجْلِسِهَا شَيْءٌ مِمَّا هِيَ بِصَدَدِهِ، هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ إقْرَارَهَا كَانَ أَرْبَعًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلْمُتَفَرِّقَاتِ حَتَّى يُعَدَّ الْوَاقِعُ فِيهِ وَاحِدًا وَكَانَ الْمُقَامُ مَقَامَ الِاحْتِيَاطِ فِي الدَّرْءِ اُعْتُبِرَ فِي الْحُكْمِ بِتَعَدُّدِ الْأَقَارِيرِ بِعَدَدِ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ الْإِقْرَارُ وَبِهِ فَارِقُ الشَّهَادَةِ.
فَإِنَّ الْأَرْبَعَ فِيهَا اُعْتُبِرَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، حَتَّى لَوْ جَاءُوا فِي مَجَالِسَ حُدُّوا؛ لِأَنَّهَا كَلَامُ جَمَاعَةٍ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا وَاحِدًا، بِخِلَافِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ فَإِنَّهُ مِنْ وَاحِدٍ فَأَمْكَنَ فِيهِ اعْتِبَارُ الِاتِّحَادِ فِي اتِّحَادِ الْمَجَالِسِ فَاعْتُبِرَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ تَحْقِيقًا لِلِاحْتِيَاطِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ: إنَّ اشْتِرَاطَ الْأَرْبَعِ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُتَّهَمُ بِخِلَافِ الْمُقِرِّ فَالتُّهْمَةُ بَعْدَ الْعَدَالَةِ وَالصَّلَاحِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ لَا شَكَّ فِي الصِّدْقِ وَأَصْلِ التَّعَدُّدِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ حَتَّى لَزِمَ الِاثْنَانِ لِإِمْكَانِ النِّسْيَانِ فَيَذْكُرُهُ الْآخَرُ لَا لِلتُّهْمَةِ وَزَوَالِهَا بِالْآخَرِ، وَيُشْتَرَطُ فِي النِّسَاءِ كَذَلِكَ أَيْضًا بِالنَّصِّ، قَالَ تعالى: {فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا تُخَالِطُ الْمَرْأَةَ لَا الرَّجُلَ الْأَجْنَبِيَّ فَلَزِمَتْ الْأُخْرَى لِتُذَكِّرَهَا قولهُ: (لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ) لَا يُعْرَفُ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ طُرِدَ وَأُخْرِجَ فَارْجِعْ إلَيْهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِذَا تَمَّ إقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ) لِتَمَامِ الْحُجَّةِ، وَمَعْنَى السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيَّنَّاهُ فِي الشَّهَادَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ.
وَقِيلَ لَوْ سَأَلَهُ جَازَ لِجَوَازِ أَنَّهُ زَنَى فِي صِبَاهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ) أَيْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَمَّنُ دَافِعًا لِلْحَدِّ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ فَلَا يَقول مَتَى زَنَيْت، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لِتِلْكَ الْفَائِدَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّقَادُمُ مُسْقِطًا لَمْ يَكُنْ فِي السُّؤَالِ عَنْهُ فَائِدَةٌ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ فِي ذَلِكَ سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ سُؤَالِ بِمَنْ زَنَيْت؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُبَيِّنُ مَنْ لَا يُحَدُّ بِوَطْئِهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي جَوَابِهِ: لَا أَعْرِفُ الَّتِي زَنَيْت بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُسْقِطُ كَوْنَ فِعْلِهِ زِنًا بَلْ تَضَمَّنَ إقْرَارُهُ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمُزَنِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَعَرَفَهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْهَلُ زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا يُحَدُّ، وَكَذَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ الْعَسِيفِ «أَنَّهُ حَدَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَ: فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، وَلِأَنَّ انْتِظَارَ حُضُورِهَا إنَّمَا هُوَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَذْكُرَ مُسْقِطًا عَنْهُ وَعَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ كَمَا يُؤَخَّرُ إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْجِعَ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَبِهِ لَا يَنْدَرِئُ الْحَدُّ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَكَذَّبَتْهُ وَقَالَتْ لَا أَعْرِفُهُ لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يُحَدُّ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا زَنَتْ بِفُلَانٍ فَأَنْكَرَ فُلَانٌ تُحَدُّ هِيَ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ.

متن الهداية:
(فَإِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَهُوَ قول ابْنِ أَبِي لَيْلَى: لِأَنَّهُ وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ.
وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ كَالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ.
بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لِوُجُودِ مَنْ يُكَذِّبُهُ، وَلَا كَذَلِكَ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ الشَّرْعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ) وَهُوَ قول ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالْمَسْطُورُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ بَعْدَمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ سَقَطَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ كَقولنَا.
وَعَنْ مَالِكٍ فِي قَبُولِ رُجُوعِهِ رِوَايَتَانِ، فَاسْتَغْنَيْنَا عَنْ تَحْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ.
وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَقولهُ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ تَحْرِيرُ الْجَامِعِ فِيهِ أَنَّهُ إنْكَارٌ بَعْدَ الثُّبُوتِ، كَمَا لَوْ فَرَضَ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ الْحَاكِمُ الْأَسْئِلَةَ الْخَمْسَةَ وَتَمَّتْ الْحُجَّةُ أَنْكَرَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَكَلَّفَ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ مَحِلٌّ وَصِحَّتُهُ شَرْعًا حُكْمٌ، فَيَجِبُ كَوْنُ الْمَحِلِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ رُجُوعًا عَنْ إقْرَارٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ لَيْسَ مُمْتَنِعًا فِي الشَّهَادَةِ.
نَعَمْ فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ: يَعْنِي لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا ثُمَّ رَجَعَ لَا يُقْبَلُ، فَكَذَا لَا يُقْبَلُ فِي الزِّنَا.
وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ بِهِ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ السَّابِقِ عَلَيْهِ فَيَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ الْإِقْرَارِ السَّابِقِ فَافْهَمْ بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُكَذِّبُهُ فِي إخْبَارِهِ الثَّانِي فَيَنْعَدِمُ أَثَرُهُ فِي إخْبَارِهِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ.

متن الهداية:
(وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ فَيَقول لَهُ: لَعَلَّك لَمَسْت أَوْ قَبَّلْت) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَاعِزٍ «لَعَلَّك لَمَسْتهَا أَوْ قَبَّلْتهَا» قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَقول لَهُ الْإِمَامُ: لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَاعِزٍ «لَعَلَّك لَمَسْتهَا» رُوِيَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ «لَعَلَّك مَسِسْتهَا لَعَلَّك قَبَّلْتهَا» وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ «لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت» وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: يَنْبَغِي أَنْ يَقول لَهُ: لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُلَقِّنَهُ مَا يَكُونُ ذِكْرُهُ دَارِئًا لِلْحَدِّ لِيَذْكُرَهُ كَائِنًا مَا كَانَ كَمَا قَالَ أَيْضًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلسَّارِقِ الَّذِي جِيءَ بِهِ إلَيْه: «أَسَرَقْت وَمَا إخَالُهُ سَرَقَ».